هذه براءة من الله، ومن رسوله، وإعلان بنهاية العهود التي عاهدتم - أيها المسلمون - عليها المشركين في جزيرة العرب.
فسيروا - أيها المشركون - في الأرض مدة أربعة أشهر آمنين، ولا عهد لكم بعدها ولا أمان، وأيقنوا أنكم لن تفلتوا من عذاب الله وعقابه إن استمررتم على كفركم به، وأيقنوا أن الله مُذِل الكافرين بالقتل والأسر في الدنيا، وبدخول النار يوم القيامة. ويشمل هذا من نقضوا عهدهم، ومن كان عهدهم مطلقًا غير مؤقت، وأما من له عهد مؤقت ولو كان أكثر من أربعة أشهر فإنه يُتَم له عهده إلى مدته.
إعلام من الله، وإعلام من رسوله إلى جميع الناس يوم النحر أن الله سبحانه بريء من المشركين، وأن رسوله بريء كذلك منهم، فإن تبتم - أيها المشركون - من شرككم فتوبتكم خير لكم، وإن أعرضتم عن التوبة فأيقنوا أنكم لن تفوتوا الله، ولن تفلتوا من عقابه، وأخبر - أيها الرسول - الذين كفروا بالله بما يسوؤهم، وهو عذاب موجع ينتظرهم.
إلا الذين عاهدتم من المشركين، ووفوا بعهدكم، ولم ينقصوا منه شيئًا، فهم مُسْتَثنَوْنَ من الحكم السابق، فأكملوا لهم الوفاء بعهدهم حتى تنقضي مدته، إن الله يحب المتقين بامتثال أوامره ومنها الوفاء بالعهد، وباجتناب نواهيه ومنها الخيانة.
فإذا انتهت الأشهر الحرم التي أَمَّنْتُم فيها أعداءكم فاقتلوا المشركين حيث لقيتموهم، وحاصروهم في مَعاقِلِهم، وترصَّدوا لهم طرقهم، فإن تابوا إلى الله من الشرك، وأقاموا الصلاة، وأعطوا زكاة أموالهم؛ فقد أصبحوا إخوانكم في الإسلام؛ فاتركوا قتالهم، إن الله غفور لمن تاب من عباده، رحيم به.
وإن دخل أحد من المشركين مباح الدم والمال وطلب جوارك - أيها الرسول - فأجبه إلى طلبه حتى يسمع القرآن، ثم أوصله إلى مكان يأمن فيه، ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون حقائق هذا الدين، فإذا علموها من سماع قراءة القرآن ربما اهتدوا.
لا يصح أن يكون للمشركين بالله عهد وأمان عند الله وعند رسوله إلا عهد أولئك المشركين الذين عاهدتموهم - أيها المسلمون - عند المسجد الحرام في صلح الحديبية، فما أقاموا لكم على العهد الذي بينكم وبينهم ولم ينقضوه فأقيموا أنتم عليه ولا تنقضوه، إن الله يحب المتقين من عباده الذين يمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه.
كيف يكون لهم عهد وأمان وهم أعداؤكم، وإن يظفروا بكم لا يراعوا فيكم الله ولا قرابة، ولا عهدًا، بل يسومونكم سوء العذاب؟! يرضونكم بالكلام الحسن الذي تنطق به ألسنتهم، لكن قلوبهم لا تطاوع ألسنتهم، فلا يَفُون بما يقولون، وأكثرهم خارجون عن طاعة الله لنقضهم العهد.
اعتاضوا، واستبدلوا عن اتباع آيات الله التي منها الوفاء بالعهود ثمنًا حقيرًا من حطام الدنيا الذي يتوصلون به إلى شهواتهم وأهوائهم، فصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وأعرضوا عنه، وصدوا غيرهم عن الحق، إنهم ساء عملهم الذي كانوا يعملون.
لا يراعون اللهَ ولا قرابةً ولا عهدًا في مؤمنٍ؛ لما هم عليه من العداوة، فهم متجاوزون لحدود الله؛ لما يتصفون به من الظلم والعدوان.
فإن تابوا إلى الله من كفرهم، ونطقوا بالشهادتين، وأقاموا الصلاة، وأعطوا زكاة أموالهم - فقد صاروا مسلمين، وهم إخوتكم في الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، ولا يحل لكم قتالهم، فإسلامهم يعصم دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ونبين الآيات ونوضحها لقوم يعلمون، فهم الذين ينتفعون بها، وينفعون بها غيرهم.
وإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على ترك القتال مدة معلومة عهودَهم ومواثيقَهم، وعابوا دينكم وانتقصوا منه فقاتلوهم، فهم أئمة الكفر وقادته، ولا عهود لهم، ولا مواثيق تحقن دماءهم، قاتلوهم رجاء أن ينتهوا عن كفرهم ونقضهم للعهود وانتقاصهم للدين.
لمَ لا تقاتلون - أيها المؤمنون - قومًا نقضوا عهودهم ومواثيقهم، وسعوا في اجتماعهم في دار الندوة إلى إخراج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مكة، وهم بدؤوكم بالقتال أول مرة عندما أعانوا بَكْرًا حلفاء قريش على خُزَاعة حلفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أتخافونهم، فلا تقدمون على قتالهم؟! فالله سبحانه أحق أن تخافوه إن كنتم مؤمنين حقًّا.
قاتلوا - أيها المؤمنون - هؤلاء المشركين، فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، وذلك بقتلكم إياهم، ويذلهم بالهزيمة والأسر، وينصركم عليهم بجعل الغلبة لكم، ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين لم يشهدوا القتال بما حصل لعدوهم من القتل والأسر والهزيمة ونصر المؤمنين عليهم.
ويُبْعِد الغيظ عن قلوب عباده المؤمنين بما نالوه من النصر عليهم. ويتوب الله على من يشاء من هؤلاء المعاندين إن تابوا كما وقع من بعض أهل مكة يوم الفتح، والله عليم بصدق التائب منهم، حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه.