تفسير
حم
1
القول في تأويل قوله تعالى : حم (1)
قد تقدم بياننا في معنى قوله (حم) .
وأما قوله: ( تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ) فإن معناه: هذا تنـزيل القرآن من عند الله (العَزِيزِ) في انتقامه من أعدائه (الحَكِيمِ) في تدبيره أمر خلقه.
وقوله: ( إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: إن في السموات السبع اللاتي منهنّ نـزول الغيث, والأرض التي منها خروج الخلق أيها الناس ( لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول: لأدلة وحججا للمصدّقين بالحجج إذا تبيَّنوها ورأوها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
يقول تعالى ذكره: وفى خلق الله إياكم أيها الناس, وخلقه ما تفرّق في الأرض من دابة تدّب عليها من غير جنسكم ( آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) يعني: حججا وأدلة لقوم يوقنون بحقائق الأشياء, فيقرّون بها, ويعلمون صحتها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) وفي التي بعد ذلك فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (آياتٌ) رفعا على الابتداء, وترك ردّها على قوله لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ , وقرأته عامة قرّاء الكوفة (آياتٍ) خفضا بتأويل النصب ردّا على قوله لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ .
وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخرين أنهم اختاروا قراءته كذلك, لأنه في قراءة أُبيّ في الآيات الثلاثة (لآياتٍ) باللام فجعلوا دخول اللام في ذلك في قراءته دليلا لهم على صحة قراءة جميعه بالخفض, وليس الذي اعتمدوا عليه من الحجة في ذلك بحجة, لأنه لا رواية بذلك عن أبيّ صحيحة, وأبيّ لو صحت به عنه رواية, ثم لم يُعلم كيف كانت قراءته بالخفض أو بالرفع لم يكن الحكم عليه بأنه كان يقرؤه خفضا, بأولى من الحكم عليه بأنه كان يقرؤه رفعا, إذ كانت العرب قد تدخل اللام في خبر المعطوف على جملة كلام تامّ قد عملت في ابتدائها " إن ", مع ابتدائهم إياه, كما قال حُمَيد بن ثَور الهِلاليّ:
إنَّ الخِلافَـــةَ بَعْـــدَهُمْ لَذَميمَــةٌ
وَخَــلائِفٌ طُــرُفٌ لَمِمَّــا أحْـقِرُ (1)
فأدخل اللام في خبر مبتدأ بعد جملة خبر قد عملت فيه " إن " إذ كان الكلام, وإن ابتدئ منويا فيه إن.
والصواب من القول في ذلك إن كان الأمر على ما وصفنا أن يقال: إن الخفض في هذه الأحرف والرفع قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار قد قرأ بهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
------------------------
الهوامش:
(1) لم أجد البيت في ديوان حميد بن ثور الهلالي طبعة دار الكتب المصرية . والخلاف الطرف : هم الذين خلفوا بعد آبائهم القدماء . يقول : إن الخلافة بعد الخلفاء الأولين صارت ذميمة ، والخلفاء المحدثون محتقرون في عيني ، لأنهم لا يسلكون مسلك آبائهم . والشاهد في البيت أن الشاعر استأنف بالواو جملة من مبتدأ وخبر مرفوعين بعد الجملة الأولى التي مبتدؤها منصوب بأن ، وذلك كما في الآية : "إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون" . ا . هـ . وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 299) قوله " وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات": تقرأ الآيات بالخفض، على تأويل النصب ، يرد على قوله "إن في السموات والأرض لآيات" . ويقوي الخفض فيها أنها في قراءة عبد الله بن مسعود : لآيات . وفي قراءة أُبي لآيات. والرفع قراءة الناس على الاستئناف فيما بعد أن . والعرب تقول : إن لي عليك مالا ، وعلى أخيك مال كثير ، فينصبون الثاني ويرفعونه وفي قراءة عبد الله : "وفي اختلاف الليل والنهار" فهذه تقوي خفض الاختلاف . ولو رفع رافع فقال: "واختلاف الليل والنهار آيات" أيضا ، يجعل الاختلاف آيات ، ولم نسمعه من أحد من القراء . قال : ولو رفع رافع الآيات وفيها اللام ، كان صوابا. قال : أنشدني الكسائي "إن الخلافة.." البيت.
القول في تأويل قوله تعالى : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
يقول تبارك وتعالى ( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أيها الناس, وتعاقبهما عليكم, هذا بظلمته وسواده وهذا بنوره وضيائه ( وَمَا أَنـزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ ) وهو الغيث الذي به تخرج الأرض أرزاق العباد وأقواتهم, وإحيائه الأرض بعد موتها: يقول: فأنبت ما أنـزل من السماء من الغيْث ميت الأرض, حتى اهتزّت بالنبات والزرع من بعد موتها, يعني: من بعد جدوبها وقحوطها ومصيرها دائرة لا نبت فيها ولا زرع.
وقوله ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) يقول: وفي تصريفه الرياح لكم شمالا مرّة, وجنوبا أخرى, وصبًّا أحيانا, ودبورا أخرى لمنافعكم.
وقد قيل: عنى بتصريفها بالرحمة مرّة, وبالعذاب أخرى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) قال: تصريفها إن شاء جعلها رحمة; وإن شاء جعلها عذابا.
وقوله ( آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يقول تعالى ذكره: في ذلك أدلة وحجج لله على خلقه, لقوم يعقلون عن الله حججه, ويفهمون عنه ما وعظهم به من الآيات والعبر.
القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
يقول تعالى ذكره: هذه الآيات والحجج يا محمد من ربك على خلقه نتلوها عليك بالحقّ: يقول: نخبرك عنها بالحقّ لا بالباطل, كما يخبر مشركو قومك عن آلهتهم بالباطل, أنها تقرّبهم إلى الله زُلْفَى, فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون: يقول تعالى ذكره للمشركين به: فبأيّ حديث أيها القوم بعد حديث الله هذا الذي يتلوه عليكم, وبعد حجه عليكم وأدلته التي دلكم بها على وحدانيته من أنه لا ربّ لكم سواه, تصدّقون, إن كنتم كذّبتم لحديثه وآياته. وهذا التأويل على مذهب قراءة من قرأ (تُؤْمِنُونَ) على وجه الخطاب من الله بهذا الكلام للمشركين, وذلك قراءة عامة قرّاء الكوفيين.
وأما على قراءة من قرأه (يُؤْمِنُونَ) بالياء, فإن معناه: فبأيّ حديث يا محمد بعد حديث الله الذي يتلوه عليك وآياته هذه التي نبه هؤلاء المشركين عليها, وذكرهم بها, يؤمن هؤلاء المشركون, وهي قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة, ولكلتا القراءتين وجه صحيح, وتأويل مفهوم, فبأية القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب عندنا, وإن كنت أميل إلى قراءته بالياء إذ كانت في سياق آيات قد مضين قبلها على وجه الخبر, وذلك قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ و لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
يقول تعالى ذكره: الوادي السائل من صديد أهل جهنم, لكلّ كذّاب ذي إثم بربه, مفتر عليه .
( يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ) يقول: يسمع آيات كتاب الله تُقرأ عليه ( ثُمَّ يُصِرُّ ) على كفره وإثمه فيقيم عليه غير تائب منه, ولا راجع عنه ( مُسْتَكْبِرًا ) على ربه أن يذعن لأمره ونهيه ( كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ) يقول: كأن لم يسمع ما تلي عليه من آيات الله بإصراره على كفره ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) يقول: فبشر يا محمد هذا الأفَّاك الأثيم الذي هذه صفته بعذاب من الله له.(أليم) : يعني موجع في نار جهنم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
يقول تعالى ذكره: (وَإِذَا عَلِمَ) هذا الأفاك الأثيم (مِنْ) آيات الله ( شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ) : يقول: اتخذ تلك الآيات التي علمها هزوا, يسخر منها, وذلك كفعل أبي جهل حين نـزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ إذ دعا بتمر وزبد فقال: تزقموا من هذا, ما يعدكم محمد إلا شهدا, وما أشبه ذلك من أفعالهم.
وقوله ( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل, وهم الذين يسمعون آيات الله تُتلى عليهم ثم يصرّون على كفرهم استكبارًا, ويتخذون آيات الله التي علموها هزوا, لهم يوم القيامة من الله عذاب مهين يهينهم ويذلهم في نار جهنم, بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته, وإنما قال تعالى ذكره (أُولَئِكَ) فجمع. وقد جرى الكلام قبل ذلك (2) ردّا للكلام إلى معنى الكلّ في قوله وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ .
------------------------
الهوامش:
(2) لعله : وقد جرى الكلام قبل ذلك على الإفراد ، ردا. إلخ...
القول في تأويل قوله تعالى : مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
يقول تعالى ذكره: ومن وراء هؤلاء المستهزئين بآيات الله, يعني من بين أيديهم. وقد بينَّا العلة التي من أجلها قيل لما أمامك, هو وَرَاءك, فيما مضى بما أغنى عن إعادته; يقول: من بين أيديهم نار جهنم هم واردوها, ولا يغنيهم ما كسبوا شيئًا: يقول: ولا يغني عنهم من عذاب جهنم إذا هم عُذّبوا به ما كسبوا في الدنيا من مال وولد شيئا.
وقوله: ( وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ) يقول: ولا آلهتهم التي عبدوها من دون الله, ورؤساؤهم, وهم الذين أطاعوهم في الكفر بالله, واتخذوهم نُصراء في الدنيا, تغني عنهم يومئذ من عذاب جهنم شيئا.( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يقول: ولهم من الله يومئذ عذاب في جهنم عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى : هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
يقول تعالى ذكره: هذا القرآن الذي أنـزلناه على محمد هدى: يقول: بيان ودليل على الحقّ, يهدي إلى صراط مستقيم, من اتبعه وعمل بما فيه ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ) يقول: والذين جحدوا ما في القرآن من الآيات الدالات على الحقّ, ولم يصدقوا بها, ويعملوا بها, لهم عذاب أليم يوم القيامة موجع.
القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يقول تعالى ذكره: الله أيها القوم, الذي لا تنبغي الألوهة إلا له, الذي أنعم عليكم هذه النعم, التي بيَّنها لكم في هذه الآيات, وهو أنه ( سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ) السفن (فيه بأمره) لمعايشكم وتصرّفكم في البلاد لطلب فضله فيها, ولتشكروا ربكم على تسخيره ذلك لكم فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به, وينهاكم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
يقول تعالى ذكره: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) من شمس وقمر ونجوم ( وَمَا فِي الأرْضِ ) من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم ( جَمِيعًا مِنْهُ ). يقول تعالى ذكره: جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم, نعم عليكم من الله أنعم بها عليكم, وفضل منه تفضّل به عليكم, فإياه فاحمدوا لا غيره, لأنه لم يشركه في إنعام هذه النعم عليكم شريك, بل تفرّد بإنعامها عليكم وجميعها منه, ومن نعمه فلا تجعلوا له في شكركم له شريكا بل أفردوه بالشكر والعبادة, وأخلصوا له الألوهة, فإنه لا إله لكم سواه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ) يقول: كل شيء هو من الله, وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه, فذلك جميعا منه, ولا ينازعه فيه المنازعون, واستيقن أنه كذلك.
وقوله ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن في تسخير الله لكم ما أنبأكم أيها الناس أنه سخره لكم فى هاتين الآيتين (لآيَاتٍ) يقول: لعلامات ودلالات على أنه لا إله لكم غيره, الذي أنعم عليكم هذه النعم, وسخر لكم هذه الأشياء التي لا يقدر على تسخيرها غيره لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته, فيعتبرون بها ويتعظون إذا تدبروها, وفكَّروا فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين صدّقوا الله واتبعوك, يغفروا للذين لا يخافون بأس الله ووقائعه ونقمه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه ( لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) يقول: ليجزي الله هؤلاء الذين يؤذونهم من المشركين في الآخرة, فيصيبهم عذابه بما كانوا فى الدنيا يكسبون من الإثم, ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه, وكانوا يستهزئون به, ويكذّبونه, فأمره الله عزّ وجلّ أن يقاتل المشركين كافَّة, فكان هذا من المنسوخ.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله ( لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال: لا يُبالون نِعم الله, أو نِقم الله.
حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال: لا يُبالون نِعم الله. وهذه الآية منسوخة بأمر الله بقتال المشركين. وإنما قُلنا: هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
وقد ذكرنا الرواية في ذلك عن ابن عباس، حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة في قوله ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال: نسختها ما في الأنفال فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وفي براءة قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال: نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ .
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال: هذا منسوخ, أمر الله بقتالهم في سورة براءة.
حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, قال: ثنا عنبسة عمن ذكره عن أبي صالح ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال: نسختها التي في الحج أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا .
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) قال: هؤلاء المشركون, قال: وقد نسخ هذا وفرض جهادهم والغلظة عليهم.
وجزم قوله (يَغْفِرُوا) تشبيها له بالجزاء والشرط وليس به, ولكن لظهوره في الكلام على مثاله, فعرّب تعريبه, وقد مضى البيان عنه قبل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( لِيَجْزِيَ قَوْمًا ) فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة والكوفة: (لِيَجْزِي) بالياء على وجه الخبر عن الله أنه يجزيهم ويثيبهم وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين " لنجزي" بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه. وذُكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤه ( لِيُجْزَى قَوْمًا ) على مذهب ما لم يسمّ فاعله, وهو على مذهب كلام العرب لحن، (1) إلا أن يكون أراد: ليجزي الجزاء قوما, بإضمار الجزاء, وجعله مرفوعا( لِيُجْزِي ) فيكون وجها من القراءة, وإن كان بعيدا (2) .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن قراءته بالياء والنون على ما ذكرت من قراءة الأمصار جائزة بأيّ تينك القراءتين قرأ القارئ. فأما قراءته على ما ذكرت عن أبي جعفر, فغير (3) جائزة عندي لمعنيين: أحدهما: أنه خلاف لما عليه الحجة من القرّاء, وغير جائز عندي خلاف ما جاءت به مستفيضا فيهم. والثاني بعدها من الصحة فى العربية إلا على استكراه الكلام على غير المعروف من وجهه.
------------------------
الهوامش:
(1) ليس كلام العرب حجة على القراءة ولكن القراءة حجة على كلامهم.
(2) يجوز أن يكون الفاعل نائب فاعل هو قوله تعالى (بما كانوا يكسبون).
(3) قوله: فغير جائزة، هذا خطأ لأن القراءة عشرية صحيحة متواترة في قوة السبعة.
القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
يقول تعالى ذكره: من عمل من عباد الله بطاعته فانتهى إلى أمره, وانـزجر لنهيه, فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل, وطلب خلاصها من عذاب الله, أطاع ربه لا لغير ذلك, لأنه لا ينفع ذلك غيره, والله عن عمل كل عامل غنيّ( وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) يقول: ومن أساء عمله في الدنيا بمعصيته فيها ربه, وخلافه فيها أمره ونهيه, فعلى نفسه جنى, لأنه أوبقها بذلك, وأكسبها به سخطه, ولم يضرّ أحدا سوى نفسه ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) يقول: ثم أنتم أيها الناس أجمعون إلى ربكم تصيرون من بعد مماتكم, فيجازى المحسن منكم بإحسانه, والمسيء بإساءته, فمن ورد عليه منكم بعمل صالح, جوزي من الثواب صالحا, ومن ورد عليه منكم بعمل سيئ جوزي من الثواب سيئا.