تفسير
حم
1
تقدم تفسير الحروف المقطعة
يخبر تعالى خبرا يتضمن الأمر بتعظيم القرآن والاعتناء به وأنه { تَنْزِيلُ } { مِنَ اللَّهِ } المألوه المعبود لما اتصف به من صفات الكمال وانفرد به من النعم الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة.
ثم أيد ذلك بما ذكره من الآيات الأفقية والنفسية من خلق السماوات والأرض
وما بث فيهما من الدواب وما أودع فيهما من المنافع وما أنزل الله من الماء الذي يحيي به الله البلاد والعباد.
فهذه كلها آيات بينات وأدلة واضحات على صدق هذا القرآن العظيم وصحة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام، ودالات أيضا على ما لله تعالى من الكمال وعلى البعث والنشور.
ثم قسم تعالى الناس بالنسبة إلى الانتفاع بآياته وعدمه إلى قسمين:
قسم يستدلون بها ويتفكرون بها وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا تاما وصل بهم إلى درجة اليقين، فزكى منهم العقول وازدادت به معارفهم وألبابهم وعلومهم.
وقسم يسمع آيات الله سماعا تقوم به الحجة عليه ثم يعرض عنها ويستكبر، كأنه ما سمعها لأنها لم تزك قلبه ولا طهرته بل بسبب استكباره عنها ازداد طغيانه.
وأنه إذا علم من آيات الله شيئا اتخذها هزوا فتوعده الله تعالى بالويل فقال:
{ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي: كذاب في مقاله أثيم في فعاله.
وأخبر أن له عذابا أليما وأن { مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } تكفي في عقوبتهم البليغة.
وأنه { لا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا } من الأموال { وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ } يستنصرون بهم فخذلوهم أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا.
فلما بين آياته القرآنية والعيانية وأن الناس فيها على قسمين أخبر أن القرآن المشتمل على هذه المطالب العالية أنه هدى فقال: { هَذَا هُدًى } وهذا وصف عام لجميع القرآن فإنه يهدي إلى معرفة الله تعالى بصفاته المقدسة وأفعاله الحميدة، ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائه وأعدائه، وأوصافهم، ويهدي إلى الأعمال الصالحة ويدعو إليها ويبين الأعمال السيئة وينهى عنها، ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال ويبين الجزاء الدنيوي والأخروي، فالمهتدون اهتدوا به فأفلحوا وسعدوا، { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } الواضحة القاطعة التي يكفر بها إلا من اشتد ظلمه وتضاعف طغيانه، { لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }
يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره، { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله تعالى فإنكم إذا شكرتموه زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيلا.
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } أي: من فضله وإحسانه، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه، وما فيها من السعة والعظمة والكثرة دال على سعة ملكه وسلطانه، وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات دليل على أنه الفعال لما يريد، وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته، وشمول فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له وأن رسله صادقون فيما جاءوا به، فهذه أدلة عقلية واضحة لا تقبل ريبا ولا شكا.
يأمر تعالى عباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيام الله أي: لا يرجون ثوابه ولا يخافون وقائعه في العاصين فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون. فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم، ثوابا جزيلا.
وهم إن استمروا على تكذيبهم فلا يحل بكم ما حل بهم من العذاب الشديد والخزي ولهذا قال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }