تفسير سورة يونس [ وهي مكية ]
أما الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تقدم الكلام عليها [ مستوفى ] في أوائل سورة البقرة .
وقال أبو الضحى ، عن ابن عباس في قوله تعالى : " الر " ، أي : أنا الله أرى . وكذا قال الضحاك وغيره .
( تلك آيات الكتاب الحكيم ) أي : هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد : ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم ) [ قال : التوراة والإنجيل ] .
[ وقال الحسن : التوراة والزبور ] .
وقال قتادة : ( تلك آيات الكتاب ) قال : الكتب التي كانت قبل القرآن .
وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه .
وقوله : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا ) الآية ، يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر ، كما أخبر تعالى عن القرون الماضية من قولهم : ( أبشر يهدوننا ) [ التغابن : 6 ] وقال هود وصالح لقومهما : ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ) [ الأعراف : 63 : 69 ] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد . قال : فأنزل الله عز وجل : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم )
وقوله : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) اختلفوا فيه ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( أن لهم قدم صدق [ عند ربهم ] ) يقول : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) يقول : أجرا حسنا ، بما قدموا . وكذا قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهذا كقوله تعالى : ( لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا ) [ الكهف : 2 ، 3 ]
وقال مجاهد : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) قال : الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم .
[ وقال عمرو بن الحارث عن قتادة أو الحسن ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ] ) قال : محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم . وكذا قال زيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان .
وقال قتادة : سلف صدق عند ربهم .
واختار ابن جرير قول مجاهد - أنها الأعمال الصالحة التي قدموها - قال : كما يقال : " له قدم في الإسلام " ومنه قول [ حسان ] رضي الله عنه .
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر
وقوله تعالى : ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) أي : مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم ، رجلا من جنسهم ، بشيرا ونذيرا ، ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) أي : ظاهر ، وهم الكاذبون في ذلك .
يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام - قيل : كهذه الأيام ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون . كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] ثم استوى على العرش ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء .
وقال وهب بن منبه : خلقه الله من نوره .
وهذا غريب .
( يدبر الأمر ) أي : يدبر أمر الخلائق ، ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [ سبأ : 3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلظه المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير ، في الجبال والبحار والعمران والقفار ، ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) [ هود : 6 ] . ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام : 59 ] .
وقال الدراوردي ، عن سعد بن إسحاق بن كعب [ بن عجرة ] أنه قال حين نزلت هذه الآية : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) لقيهم ركب عظيم [ لا يرون إلا أنهم ] من العرب ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا . من الجن ، خرجنا من المدينة ، أخرجتنا هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .
[ وقوله ] ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) كقوله تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255 ] وكقوله تعالى : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) [ النجم : 26 ] وقوله : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) [ سبأ : 23 ] .
وقوله : ( ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ) أي : أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ( أفلا تذكرون ) أي : أيها المشركون في أمركم ، تعبدون مع الله غيره ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ، كقوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ الزخرف : 87 ] ، وقوله : ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون ) [ المؤمنون : 86 - 87 ] ، وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها .
خبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة ، لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه . ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده ، ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) [ الروم : 27 ] .
( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) أي : بالعدل والجزاء الأوفى ، ( والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) أي : بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العقاب ، من ( سموم وحميم وظل من يحموم ) [ الواقعة : 42 ، 43 ] . ( هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج ) [ ص : 57 ، 58 ] . ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ) [ الرحمن : 43 ، 44 ] .
يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وشعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو صغيرا ، ثم يتزايد نوره وجرمه ، حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر ، كما قال تعالى : ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) [ يس : 39 ، 40 ] . وقال : ( والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ الأنعام : 96 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة : ( وقدره ) أي : القمر ( وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام .
( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) أي : لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك ، وحجة بالغة ، كما قال تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) . وقال تعالى : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) [ المؤمنون : 115 ، 116 ] .
وقوله : ( نفصل الآيات ) أي : نبين الحجج والأدلة ( لقوم يعلمون )
وقوله : ( إن في اختلاف الليل والنهار ) أي : تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب هذا جاء هذا ، لا يتأخر عنه شيئا ، كما قال تعالى : ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) [ الأعراف : 54 ] ، وقال : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ) [ يس : 40 ] ، وقال تعالى : ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ الأنعام : 96 ] .
وقوله : ( وما خلق الله في السماوات والأرض ) أي : من الآيات الدالة على عظمته تعالى ، كما قال : ( وكأين من آية في السماوات والأرض [ يمرون عليها وهم عنها معرضون ] ) [ يوسف : 105 ] ، [ وقال ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ] وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) [ يونس : 101 ] . وقال : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ) [ سبأ : 9 ] . وقال : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : 190 ] . أي : العقول ، وقال هاهنا : ( لآيات لقوم يتقون ) أي : عقاب الله ، وسخطه ، وعذابه .
يقول الله تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقاء الله شيئا ، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها أنفسهم .
قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها ، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها ، والشرعية فلا يأتمرون بها ،
بأن مأواهم يوم معادهم النار ، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام ، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر .
وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وامتثلوا ما أمروا به ، فعملوا الصالحات ، بأنه سيهديهم بإيمانهم .
يحتمل أن تكون " الباء " هاهنا سببية فتقديره : بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط ، حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة . ويحتمل أن تكون للاستعانة ، كما قال مجاهد في قوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) قال : [ يكون لهم نورا يمشون به ] .
وقال ابن جريج في [ قوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) قال ] : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره ، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك . فيجعل له نورا . من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله تعالى : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازه حتى يقذفه في النار .
وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم .
وقوله : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) أي : هذا حال أهل الجنة .
قال ابن جريج : أخبرت أن قوله : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) [ قال : إذا مر بهم الطير يشتهونه ، قالوا : سبحانك اللهم ] وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه ، فيسلم عليهم ، فيردون عليه . فذلك قوله : ( وتحيتهم فيها سلام ) قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم ، فذلك قوله : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين )
وقال مقاتل بن حيان : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم : ( سبحانك اللهم ) قال : فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم ، مع كل خادم صحفة من ذهب ، فيها طعام ليس في الأخرى ، قال : فيأكل منهن كلهن .
وقال سفيان الثوري : إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال : ( سبحانك اللهم )
وهذه الآية فيها شبه من قوله : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ) [ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) [ الواقعة : 25 ، 26 ] . وقوله : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] . وقوله : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 23 ، 24 ] .
وقوله : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) هذا فيه دلالة على أن الله تعالى هو المحمود أبدا ، المعبود على طول المدى ؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره ، وفي ابتداء كتابه ، وعند ابتداء تنزيله ، حيث يقول تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) [ الكهف : 1 ] ، ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) [ الأنعام : 1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها ، وأنه المحمود في الأول و [ في ] الآخر ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، في جميع الأحوال ؛ ولهذا جاء في الحديث : " إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس " وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم ، فتكرر وتعاد وتزاد ، فليس لها انقضاء ولا أمد ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده : أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهذا لا يستجيب لهم - والحالة هذه - لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء ؛ ولهذا قال : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) أي : لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك ، لأهلكهم ، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد ، حدثنا جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم " .
ورواه أبو داود ، من حديث حاتم بن إسماعيل ، به .
وقال البزار : [ و ] تفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري ، لم يشاركه أحد فيه ، وهذا كقوله تعالى : ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) [ الإسراء : 11 ] .
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : " اللهم لا تبارك فيه والعنه " . فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك ، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم .
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر ، كقوله : ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) [ فصلت : 51 ] أي : كثير ، وهما في معنى واحد ؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها ، وأكثر الدعاء عند ذلك ، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه ، وفي جميع أحواله ، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته ، أعرض ونأى بجانبه ، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء ، ( مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه )
ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال : ( كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد ، فإنه مستثنى من ذلك ، كما قال تعالى : ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) [ هود : 11 ] ، وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .
أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية ، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات
ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم ، وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له ، واتباعهم رسوله ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد حدثنا حماد ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ؛ أن عوف بن مالك قال لأبي بكر : رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء ، فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعيد ، فانتشط أبو بكر ، ثم ذرع الناس حول المنبر ، ففضل عمر بثلاث أذرع إلى المنبر . فقال عمر : دعنا من رؤياك ، لا أرب لنا فيها ! فلما استخلف عمر قال : يا عوف ، رؤياك ! فقال : وهل لك في رؤياي من حاجة ؟ أولم تنتهرني ؟ فقال : ويحك ! إني : كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ! فقص عليه الرؤيا ، حتى إذا بلغ : " ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع " ، قال : أما إحداهن فإنه كائن خليفة . وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم . وأما الثالثة فإنه شهيد . قال : فقال : يقول الله تعالى : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) فقد استخلفت يا ابن أم عمر ، فانظر كيف تعمل ؟ وأما قوله : " فإني لا أخاف في الله لومة لائم " ، فما شاء الله ! وأما قوله : [ إني ] شهيد فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به .
يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين الحق المعرضين عنه ، أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له : ( ائت بقرآن غير هذا ) أي : رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر ، أو بدله إلى وضع آخر ، قال الله لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ) أي : ليس هذا إلي ، إنما أنا عبد مأمور ، ورسول مبلغ عن الله ، ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )