تفسير سورة يونس تفسير ابن كثير

تفسير سورة يونس بواسطة تفسير ابن كثير هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مكية وجاء ترتيبها 10 في المصحف الكريم وعدد آياتها 109.

تفسير آيات سورة يونس

تفسير الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ 1

تفسير سورة يونس [ وهي مكية ]
أما الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تقدم الكلام عليها [ مستوفى ] في أوائل سورة البقرة .
وقال أبو الضحى ، عن ابن عباس في قوله تعالى : " الر " ، أي : أنا الله أرى . وكذا قال الضحاك وغيره .
( تلك آيات الكتاب الحكيم ) أي : هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد : ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم ) [ قال : التوراة والإنجيل ] .
[ وقال الحسن : التوراة والزبور ] .
وقال قتادة : ( تلك آيات الكتاب ) قال : الكتب التي كانت قبل القرآن .
وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه .

تفسير أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ 2

وقوله : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا ) الآية ، يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر ، كما أخبر تعالى عن القرون الماضية من قولهم : ( أبشر يهدوننا ) [ التغابن : 6 ] وقال هود وصالح لقومهما : ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ) [ الأعراف : 63 : 69 ] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد . قال : فأنزل الله عز وجل : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم )
وقوله : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) اختلفوا فيه ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( أن لهم قدم صدق [ عند ربهم ] ) يقول : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) يقول : أجرا حسنا ، بما قدموا . وكذا قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهذا كقوله تعالى : ( لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا ) [ الكهف : 2 ، 3 ]
وقال مجاهد : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) قال : الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم .
[ وقال عمرو بن الحارث عن قتادة أو الحسن ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ] ) قال : محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم . وكذا قال زيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان .
وقال قتادة : سلف صدق عند ربهم .
واختار ابن جرير قول مجاهد - أنها الأعمال الصالحة التي قدموها - قال : كما يقال : " له قدم في الإسلام " ومنه قول [ حسان ] رضي الله عنه .
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر
وقوله تعالى : ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) أي : مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم ، رجلا من جنسهم ، بشيرا ونذيرا ، ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) أي : ظاهر ، وهم الكاذبون في ذلك .

تفسير إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ 3

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام - قيل : كهذه الأيام ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون . كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] ثم استوى على العرش ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء .
وقال وهب بن منبه : خلقه الله من نوره .
وهذا غريب .
( يدبر الأمر ) أي : يدبر أمر الخلائق ، ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [ سبأ : 3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلظه المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير ، في الجبال والبحار والعمران والقفار ، ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) [ هود : 6 ] . ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام : 59 ] .
وقال الدراوردي ، عن سعد بن إسحاق بن كعب [ بن عجرة ] أنه قال حين نزلت هذه الآية : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) لقيهم ركب عظيم [ لا يرون إلا أنهم ] من العرب ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا . من الجن ، خرجنا من المدينة ، أخرجتنا هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .
[ وقوله ] ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) كقوله تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255 ] وكقوله تعالى : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) [ النجم : 26 ] وقوله : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) [ سبأ : 23 ] .
وقوله : ( ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ) أي : أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ( أفلا تذكرون ) أي : أيها المشركون في أمركم ، تعبدون مع الله غيره ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ، كقوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ الزخرف : 87 ] ، وقوله : ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون ) [ المؤمنون : 86 - 87 ] ، وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها .

تفسير إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ 4

خبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة ، لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه . ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده ، ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) [ الروم : 27 ] .
( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) أي : بالعدل والجزاء الأوفى ، ( والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) أي : بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العقاب ، من ( سموم وحميم وظل من يحموم ) [ الواقعة : 42 ، 43 ] . ( هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج ) [ ص : 57 ، 58 ] . ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ) [ الرحمن : 43 ، 44 ] .

تفسير هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 5

يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وشعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو صغيرا ، ثم يتزايد نوره وجرمه ، حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر ، كما قال تعالى : ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) [ يس : 39 ، 40 ] . وقال : ( والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ الأنعام : 96 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة : ( وقدره ) أي : القمر ( وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام .
( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) أي : لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك ، وحجة بالغة ، كما قال تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) . وقال تعالى : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) [ المؤمنون : 115 ، 116 ] .
وقوله : ( نفصل الآيات ) أي : نبين الحجج والأدلة ( لقوم يعلمون )

تفسير إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ 6

وقوله : ( إن في اختلاف الليل والنهار ) أي : تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب هذا جاء هذا ، لا يتأخر عنه شيئا ، كما قال تعالى : ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) [ الأعراف : 54 ] ، وقال : ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ) [ يس : 40 ] ، وقال تعالى : ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ الأنعام : 96 ] .
وقوله : ( وما خلق الله في السماوات والأرض ) أي : من الآيات الدالة على عظمته تعالى ، كما قال : ( وكأين من آية في السماوات والأرض [ يمرون عليها وهم عنها معرضون ] ) [ يوسف : 105 ] ، [ وقال ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ] وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) [ يونس : 101 ] . وقال : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ) [ سبأ : 9 ] . وقال : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : 190 ] . أي : العقول ، وقال هاهنا : ( لآيات لقوم يتقون ) أي : عقاب الله ، وسخطه ، وعذابه .

تفسير إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ 7

يقول الله تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقاء الله شيئا ، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها أنفسهم .
قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها ، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها ، والشرعية فلا يأتمرون بها ،

تفسير أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ 8

بأن مأواهم يوم معادهم النار ، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام ، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر .

تفسير إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 9

وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وامتثلوا ما أمروا به ، فعملوا الصالحات ، بأنه سيهديهم بإيمانهم .
يحتمل أن تكون " الباء " هاهنا سببية فتقديره : بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط ، حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة . ويحتمل أن تكون للاستعانة ، كما قال مجاهد في قوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) قال : [ يكون لهم نورا يمشون به ] .
وقال ابن جريج في [ قوله : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) قال ] : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره ، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك . فيجعل له نورا . من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله تعالى : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازه حتى يقذفه في النار .
وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم .

تفسير دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 10

وقوله : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) أي : هذا حال أهل الجنة .
قال ابن جريج : أخبرت أن قوله : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) [ قال : إذا مر بهم الطير يشتهونه ، قالوا : سبحانك اللهم ] وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه ، فيسلم عليهم ، فيردون عليه . فذلك قوله : ( وتحيتهم فيها سلام ) قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم ، فذلك قوله : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين )
وقال مقاتل بن حيان : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم : ( سبحانك اللهم ) قال : فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم ، مع كل خادم صحفة من ذهب ، فيها طعام ليس في الأخرى ، قال : فيأكل منهن كلهن .
وقال سفيان الثوري : إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال : ( سبحانك اللهم )
وهذه الآية فيها شبه من قوله : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ) [ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) [ الواقعة : 25 ، 26 ] . وقوله : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] . وقوله : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 23 ، 24 ] .
وقوله : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) هذا فيه دلالة على أن الله تعالى هو المحمود أبدا ، المعبود على طول المدى ؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره ، وفي ابتداء كتابه ، وعند ابتداء تنزيله ، حيث يقول تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) [ الكهف : 1 ] ، ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) [ الأنعام : 1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها ، وأنه المحمود في الأول و [ في ] الآخر ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، في جميع الأحوال ؛ ولهذا جاء في الحديث : " إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس " وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم ، فتكرر وتعاد وتزاد ، فليس لها انقضاء ولا أمد ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .

تفسير وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ 11

يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده : أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهذا لا يستجيب لهم - والحالة هذه - لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء ؛ ولهذا قال : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) أي : لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك ، لأهلكهم ، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد ، حدثنا جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم " .
ورواه أبو داود ، من حديث حاتم بن إسماعيل ، به .
وقال البزار : [ و ] تفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري ، لم يشاركه أحد فيه ، وهذا كقوله تعالى : ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) [ الإسراء : 11 ] .
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : " اللهم لا تبارك فيه والعنه " . فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك ، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم .

تفسير وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 12

يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر ، كقوله : ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) [ فصلت : 51 ] أي : كثير ، وهما في معنى واحد ؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها ، وأكثر الدعاء عند ذلك ، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه ، وفي جميع أحواله ، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته ، أعرض ونأى بجانبه ، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء ، ( مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه )
ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال : ( كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد ، فإنه مستثنى من ذلك ، كما قال تعالى : ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) [ هود : 11 ] ، وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .

تفسير وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ 13

أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية ، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات

تفسير ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 14

ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم ، وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له ، واتباعهم رسوله ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد حدثنا حماد ، عن ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ؛ أن عوف بن مالك قال لأبي بكر : رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء ، فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعيد ، فانتشط أبو بكر ، ثم ذرع الناس حول المنبر ، ففضل عمر بثلاث أذرع إلى المنبر . فقال عمر : دعنا من رؤياك ، لا أرب لنا فيها ! فلما استخلف عمر قال : يا عوف ، رؤياك ! فقال : وهل لك في رؤياي من حاجة ؟ أولم تنتهرني ؟ فقال : ويحك ! إني : كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ! فقص عليه الرؤيا ، حتى إذا بلغ : " ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع " ، قال : أما إحداهن فإنه كائن خليفة . وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم . وأما الثالثة فإنه شهيد . قال : فقال : يقول الله تعالى : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) فقد استخلفت يا ابن أم عمر ، فانظر كيف تعمل ؟ وأما قوله : " فإني لا أخاف في الله لومة لائم " ، فما شاء الله ! وأما قوله : [ إني ] شهيد فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به .

تفسير وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15

يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين الحق المعرضين عنه ، أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له : ( ائت بقرآن غير هذا ) أي : رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر ، أو بدله إلى وضع آخر ، قال الله لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ) أي : ليس هذا إلي ، إنما أنا عبد مأمور ، ورسول مبلغ عن الله ، ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )