مكية
( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) أكثر المفسرين : على أن هذه السورة أول سورة نزلت من القرآن ، وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله : " ما لم يعلم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ فقال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ، [ قال : فأخذني ] فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة [ حتى بلغ مني الجهد ] ، ثم أرسلني ، فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ) فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة : ما لي ؟ وأخبرها الخبر ، وقال : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ما يقول ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي [ هم ] ؟ قال : نعم لم يأت [ أحد بمثل ما ] جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم يمكث ورقة أن توفي ، وفتر الوحي .
وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث في موضع آخر من كتابه ، عن يحيى بن بكير بهذا الإسناد ، وقال : حدثني عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر قال الزهري ، فأخبرني عروة عن عائشة وذكر الحديث ، قال : " اقرأ باسم ربك الذي خلق " حتى بلغ " ما لم يعلم " وزاد في آخره فقال : وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي ، - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا حتى يتردى من رءوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك " .
أخبرنا أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد الوراق أخبرنا مكي بن عبدان ، أخبرنا عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا سفيان عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : أول سورة نزلت قوله - عز وجل - : " اقرأ باسم ربك " .
قال أبو عبيدة : مجازه : اقرأ اسم ربك ، يعني أن الباء زائدة ، والمعنى : اذكر اسمه ، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله [ تأديبا ] .
( الذي خلق ) قال الكلبي : يعني الخلائق
ثم فسره فقال: "خلق الإنسان" يعني خلق ابن آدم، "من علق"، جمع علقة.
"اقرأ"، كرره تأكيداً، ثم استأنف فقال: "وربك الأكرم"، قال الكلبي: الحليم عن جهل العباد لا يعجل عليهم بالعقوبة.
"الذي علم بالقلم"، يعني الخط والكتابة.
"علم الإنسان ما لم يعلم"، من أنواع الهدى والبيان. وقيل: علم آدم الأسماء كلها. وقيل: الإنسان ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه: "وعلمك ما لم تكن تعلم" (النساء- 113).
"كلا"، حقاً، "إن الإنسان ليطغى"، ليتجاوز حده ويستكبر على ربه.
( أن ) لأن ( رآه استغنى ) أن رأى نفسه غنيا . قال الكلبي : يرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما .
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، كان إذا أصاب مالا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه ، فذلك طغيانه .
( إن إلى ربك الرجعى ) أي المرجع في الآخرة ، [ " الرجعى " : مصدر على وزن فعلى ] .
"عبداً إذا صلى"،نزلت في أبي جهل ، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى القيسي ، قالا حدثنا المعتمر عن أبيه ، حدثني نعيم بن أبي هند ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل : نعم ، فقال : [ واللات ] والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب ، قال : فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، [ عزم ] ليطأ على رقبته ، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص ، على عقبيه ، ويتقي بيديه ، قال فقيل له : ما لك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه لخندقا من نار ، وهولا وأجنحة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ، قال : فأنزل الله - لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى الآيات .
ومعنى " أرأيت " هاهنا تعجيب للمخاطب .
وكرر هذه اللفظة للتأكيد :أرأيت إن كان إلى الهدى يعني العبد المنهي وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
"أو أمر بالتقوى" يعني بالإخلاص والتوحيد.
"أرأيت إن كذب"، يعني أبا جهل، "وتولى"، عن الإيمان. وتقدير نظم الآية: أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى والمنهي على الهدى، آمر بالتقوى والناهي مكذب متول عن الإيمان، فما أعجب من هذا!
"ألم يعلم"، يعني أبا جهل، "بأن الله يرى"، ذلك فيجازيه به.
( كلا ) لا يعلم ذلك ، ( لئن لم ينته ) عن إيذاء [ نبيه ] - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه ، ( لنسفعن بالناصية ) لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النار ، كما قال " فيؤخذ بالنواصي والأقدام " ( الرحمن - 41 ) يقال : سفعت بالشيء ، إذا أخذته وجذبته جذبا شديدا ، و " الناصية " : شعر مقدم الرأس .