[ بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة وما توفيقي إلا بالله ] تفسير سورة الأنعام [ وهي مكية ] قال العوفي وعكرمة وعطاء ، عن ابن عباس : أنزلت سورة الأنعام بمكة سبب نزولها . وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح
وقال سفيان الثوري ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة [ واحدة ] وأنا آخذة بزمام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة
وقال شريك ، عن ليث ، عن شهر ، عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض
وقال السدي ، عن مرة ، عن عبد الله قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة .
وروي نحوه من وجه آخر ، عن ابن مسعود .
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي ، أخبرنا جعفر بن عون ، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي ، حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا إبراهيم بن درستويه الفارسي ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي ، عن نافع بن مالك أبي سهيل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة ، سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض بهم ترتج " ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " سبحان الله العظيم ، سبحان الله العظيم "
ثم روى ابن مردويه ، عن الطبراني ، عن إبراهيم بن نائلة ، عن إسماعيل بن عمرو ، عن يوسف بن عطية ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيعها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد "
يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة ، وحامدا لها على خلقه السموات والأرض قرارا لعباده وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم ، فجمع لفظ " الظلمات " ووحد لفظ " النور " ; لكونه أشرف ، كما قال ( عن اليمين والشمائل ) [ النحل : 48 ] ، وكما قال في آخر هذه السورة ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ الأنعام : 153 ] .
وقوله : ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) أي : ومع هذا كله كفر به بعض عباده ، وجعلوا معه شريكا وعدلا واتخذوا له صاحبة وولدا ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وقوله : ( هو الذي خلقكم من طين ) يعني : أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا ، فانتشروا في المشارق والمغارب .
وقوله : ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ثم قضى أجلا ) يعني : الموت ( وأجل مسمى عنده ) يعني : الآخرة .
وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم وعطية والسدي ومقاتل بن حيان ، وغيرهم .
وقول الحسن - في رواية عنه : ( ثم قضى أجلا ) قال : ما بين أن يخلق إلى أن يموت ( وأجل مسمى عنده ) ما بين أن يموت إلى أن يبعث - هو يرجع إلى ما تقدم ، وهو تقدير الأجل الخاص ، وهو عمر كل إنسان ، وتقدير الأجل العام ، وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها ، [ وانتقالها ] والمصير إلى الدار الآخرة .
وعن ابن عباس ومجاهد : ( ثم قضى أجلا ) يعني : مدة الدنيا ( وأجل مسمى عنده ) يعني : عمر الإنسان إلى حين موته ، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم [ يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ] ) الآية [ الأنعام : 60 ] .
وقال عطية ، عن ابن عباس ( ثم قضى أجلا ) يعني : النوم ، يقبض فيه الروح ، ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة ( وأجل مسمى عنده ) يعني : أجل موت الإنسان ، وهذا قول غريب .
ومعنى قوله : ( عنده ) أي : لا يعلمه إلا هو ، كقوله تعالى : ( إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ) [ الأعراف : 187 ] ، وكقوله ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها ) [ النازعات : 42 - 44 ] .
وقوله : ( ثم أنتم تمترون ) قال السدي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة .
وقوله : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ) اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال ، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجهمية الأول القائلين بأنه - تعالى عن قولهم علوا كبيرا - في كل مكان ; حيث حملوا الآية على ذلك ، فأصح الأقوال أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رغبا ورهبا ، إلا من كفر من الجن والإنس ، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) [ الزخرف : 84 ] ، أي : هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله : ( يعلم سركم وجهركم ) خبرا أو حالا .
والقول الثاني : أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض ، من سر وجهر . فيكون قوله : ( يعلم ) متعلقا بقوله : ( في السماوات وفي الأرض ) تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون .
والقول الثالث أن قوله ( وهو الله في السماوات ) وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : ( وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ) وهذا اختيار ابن جرير .
وقوله : ( ويعلم ما تكسبون ) أي : جميع أعمالهم خيرها وشرها .
يقول تعالى مخبرا عن المشركين المكذبين المعاندين : إنهم مهما أتتهم ) من آية ) أي : دلالة ومعجزة وحجة ، من الدلالات على وحدانية الرب ، عز وجل ، وصدق رسله الكرام ، فإنهم يعرضون عنها ، فلا ينظرون فيها ولا يبالون بها .
قال الله تعالى : ( فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق ، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب ، وليجدن غبه ، وليذوقن وباله .
ثم قال تعالى واعظا ومحذرا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر جمعا ، وأكثر أموالا وأولادا واستغلالا للأرض وعمارة لها ، فقال ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) أي : من الأموال والأولاد والأعمار ، والجاه العريض ، والسعة والجنود ( وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) أي : شيئا بعد شيء ( وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) أي : أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض ، أي : استدراجا وإملاء لهم ( فأهلكناهم بذنوبهم ) أي : بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها ( وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) أي : فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث ( وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) أي : جيلا آخر لنختبرهم ، فعملوا مثل أعمالهم فهلكوا كهلاكهم . فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم [ مثل ] ما أصابهم ، فما أنتم بأعز على الله منهم ، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم ، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم ، لولا لطفه وإحسانه .
يقول تعالى مخبرا عن كفر المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ) أي : عاينوه ، ورأوا نزوله ، وباشروا ذلك ( لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) وهذا كما قال تعالى مخبرا عن مكابرتهم للمحسوسات : ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) [ الحجر : 14 ، 15 ] وقال تعالى : ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ) [ الطور : 44 ] .
( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) [ أي : فيكون معه نذيرا ] قال الله : ( ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) أي : لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب ، كما قال تعالى : ( ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ) [ الحجر : 8 ] ، [ و ] قال تعالى : ( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين [ ويقولون حجرا محجورا ] ) [ الفرقان : 22 ] .
وقوله : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) أي : ولو أنزلنا مع الرسول البشري ملكا ، أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا لكان على هيئة رجل لتفهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري ، كما قال تعالى : ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) [ الإسراء : 95 ] ، فمن رحمة الله تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ، ليدعو بعضهم بعضا ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال ، كما قال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ) الآية [ آل عمران : 164 ] .
قال الضحاك ، عن ابن عباس في [ قوله : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) ] الآية . يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل ; لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور ( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون . وقال الوالبي عنه : ولشبهنا عليهم .
وقوله : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) هذا تسلية لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في تكذيب من كذبه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة .
ثم قال : ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي : فكروا في أنفسكم ، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم ، من العذاب والنكال ، والعقوبة في الدنيا ، مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة ، وكيف نجي رسله وعباده المؤمنون .
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين ، من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، - رضي الله عنه - ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تغلب غضبي "
وقوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم [ وهو يوم القيامة ] الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون .
وقال ابن مردويه عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عقبة ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا محصن بن عقبة اليماني ، عن الزبير بن شبيب ، عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوقوف بين يدي رب العالمين ، هل فيه ماء؟ قال : " والذي نفسي بيده ، إن فيه لماء ، إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء ، ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك في أيديهم عصي من نار ، يذودون الكفار عن حياض الأنبياء " .
هذا حديث غريب وفي الترمذي : " إن لكل نبي حوضا ، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة
ولهذا قال : ( الذين خسروا أنفسهم ) [ أي يوم القيامة ] ( فهم لا يؤمنون ) أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم .
ثم قال تعالى ( وله ما سكن في الليل والنهار ) أي : كل دابة في السموات والأرض ، الجميع عباده وخلقه ، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره ، ولا إله إلا هو ( وهو السميع العليم ) أي : السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم .
ثم قال لعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم ، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه المستقيم : ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ) كما قال ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) [ الزمر : 64 ] ، والمعنى : لا أتخذ وليا إلا الله وحده لا شريك له ، فإنه فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق .
( وهو يطعم ولا يطعم ) أي : وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم ، كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ] ) [ الذاريات : 56 - 58 ] .
وقرأ بعضهم هاهنا : ( وهو يطعم ولا يطعم ) الآية أي : لا يأكل .
وفي حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فانطلقنا معه ، فلما طعم النبي - صلى الله عليه وسلم - وغسل يديه قال : الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم ، ومن علينا فهدانا ، وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا ، الحمد لله غير مودع ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه ، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام ، وسقانا من الشراب ، وكسانا من العري ، وهدانا من الضلال ، وبصرنا من العمى ، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين "
( قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ) أي : من هذه الأمة
( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) يعني : يوم القيامة .