تفسير
حم
1
تفسير سورة الزخرف وهي مكية .
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسـره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان.
ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور.
قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم وحم والمص وص.
فواتح افتتح الله بها القرآن.
أي : البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ ; لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس
ولهذا قال : ( إنا جعلناه ) أي : أنزلناه ( قرآنا عربيا ) أي : بلغة العرب فصيحا واضحا ، ( لعلكم تعقلون ) أي : تفهمونه وتتدبرونه ، كما قال : ( بلسان عربي مبين ) [ الشعراء : 195 ] .
وقوله تعالى : ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) بين شرفه في الملأ الأعلى ، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض ، فقال تعالى : ( وإنه ) أي القرآن ( في أم الكتاب ) أي اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ( لدينا ) أي : عندنا ، قاله قتادة وغيره ، ( لعلي ) أي : ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل ، قاله قتادة ) حكيم ) أي : محكم بريء من اللبس والزيغ .
وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله ، كما قال : ( إنه لقرآن كريم . في كتاب مكنون . لا يمسه إلا المطهرون . تنزيل من رب العالمين ) [ الواقعة : 77 - 80 ] وقال : ( كلا إنها تذكرة . فمن شاء ذكره . في صحف مكرمة . مرفوعة مطهرة . بأيدي سفرة . كرام بررة ) [ عبس : 11 - 16 ] ; ولهذا استنبط العلماء ، رحمهم الله ، من هاتين الآيتين : أن المحدث لا يمس المصحف ، كما ورد به الحديث إن صح ; لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى ، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى ، لأنه نزل عليهم ، وخطابه متوجه إليهم ، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم ، والانقياد له بالقبول والتسليم ، لقوله : ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )
وقوله : ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ) اختلف المفسرون في معناها ، فقيل : معناها : أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به ؟ قاله ابن عباس ، ومجاهد وأبو صالح ، والسدي ، واختاره ابن جرير .
وقال قتادة في قوله : : ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا ) : والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته ، وكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة ، أو ما شاء الله من ذلك .
وقول قتادة لطيف المعنى جدا ، وحاصله أنه يقول في معناه : إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذكر الحكيم - وهو القرآن - وإن كانوا مسرفين معرضين عنه ، بل أمر به ليهتدي من قدر هدايته ، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته .
ثم قال تعالى - مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه ، وآمرا له بالصبر عليهم - : ( وكم أرسلنا من نبي في الأولين ) أي : في شيع الأولين ، .
( وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون ) أي : يكذبونه ويسخرون به
وقوله : ( فأهلكنا أشد منهم بطشا ) أي : فأهلكنا المكذبين بالرسل ، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد . كقوله : ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة ) [ غافر : 82 ] والآيات في ذلك كثيرة .
وقوله : ( ومضى مثل الأولين ) قال مجاهد : سنتهم . وقال قتادة : عقوبتهم . وقال غيرهما : عبرتهم ، أي : جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ، كقوله في آخر هذه السورة : ( فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) [ الزخرف : 56 ] . وكقوله : ( سنت الله التي قد خلت في عباده ) [ غافر : 85 ] وقال : ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) [ الأحزاب : 62 ] .
( والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون ( 11 ) والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ( 12 ) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ( 13 ) وإنا إلى ربنا لمنقلبون ( 14 ) )
يقول تعالى : ولئن سألت - يا محمد - هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره : ( من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) أي : ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله [ تعالى ] وحده لا شريك له ، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد .
ثم قال : ( الذي جعل لكم الأرض مهدا ) أي : فراشا قرارا ثابتة ، يسيرون عليها ويقومون وينامون وينصرفون ، مع أنها مخلوقة على تيار الماء ، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا ، ( وجعل لكم فيها سبلا ) أي : طرقا بين الجبال والأودية ( لعلكم تهتدون ) أي : في سيركم من بلد إلى بلد ، وقطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم .
( والذي نزل من السماء ماء بقدر ) أي : بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم ، لأنفسكم ولأنعامكم . وقوله : ( فأنشرنا به بلدة ميتا ) أي : أرضا ميتة ، فلما جاءها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج .
ثم نبه بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها ، فقال : ( كذلك تخرجون )
ثم قال : ( والذي خلق الأزواج كلها ) أي : مما تنبت الأرض من سائر الأصناف ، من نبات وزروع وثمار وأزاهير ، وغير ذلك [ أي ] من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها ، ( وجعل لكم من الفلك ) أي السفن ( والأنعام ما تركبون ) أي : ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها ، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها ; ولهذا قال :
( لتستووا على ظهوره ) أي : لتستووا متمكنين مرتفقين ( على ظهوره ) أي : على ظهور هذا الجنس ، ( ثم تذكروا نعمة ربكم ) أي : فيما سخر لكم ( إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) أي : مقاومين . ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه .
قال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي وابن زيد : ( مقرنين ) أي : مطيقين .
( وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) أي : لصائرون إليه بعد مماتنا ، وإليه سيرنا الأكبر . وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة ، كما نبه بالزاد الدنيوي على [ الزاد ] الأخروي في قوله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة : 197 ] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى : ( وريشا ولباس التقوى ذلك خير [ ذلك من آيات الله ] ) [ الأعراف : 26 ] .
ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة :
حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا شريك بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن علي بن ربيعة قال : رأيت عليا ، رضي الله عنه ، أتي بدابة ، فلما وضع رجله في الركاب قال : باسم الله . فلما استوى عليها قال : الحمد لله ، ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) ثم حمد الله ثلاثا ، وكبر ثلاثا ، ثم قال : سبحانك ، لا إله إلا أنت ، قد ظلمت نفسي فاغفر لي . ثم ضحك فقلت له : من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت ، ثم ضحك . فقلت : مم ضحكت يا رسول الله ؟ فقال : " يعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي . ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري " .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث أبي الأحوص - زاد النسائي : ومنصور - عن أبي إسحاق السبيعي ، عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقد قال عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة : قلت لأبي إسحاق السبيعي : ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال : من يونس بن خباب . فلقيت يونس بن خباب فقلت : ممن سمعته ؟ فقال : من رجل سمعه من علي بن ربيعة . ورواه بعضهم عن يونس بن خباب ، عن شقيق بن عقبة الأسدي ، عن علي بن ربيعة الوالبي ، به .
حديث عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما :
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الله بن عباس ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردفه على دابته ، فلما استوى عليها كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا ، وحمد ثلاثا ، وهلل الله واحدة . ثم استلقى عليه فضحك ، ثم أقبل عليه فقال : " ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت ، إلا أقبل الله ، عز وجل ، عليه ، فضحك إليه كما ضحكت إليك " . تفرد به أحمد .
حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما :
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن علي بن عبد الله البارقي ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ، ثم قال : ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) . ثم يقول : " اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى . اللهم ، هون علينا السفر واطو لنا البعيد . اللهم ، أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل . اللهم ، اصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا " . وكان إذا رجع إلى أهله قال : " آيبون تائبون إن شاء الله ، عابدون ، لربنا حامدون " .
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث ابن جريج ، والترمذي من حديث حماد بن سلمة ، كلاهما عن أبي الزبير ، به .
حديث آخر :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان ، عن أبي لاس الخزاعي قال : حملنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبل من إبل الصدقة إلى الحج . فقلنا : يا رسول الله ، ما نرى أن تحملنا هذه ! فقال : " ما من بعير إلا في ذروته شيطان ، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم ، ثم امتهنوها لأنفسكم ، فإنما يحمل الله عز وجل " .
أبو لاس اسمه : محمد بن الأسود بن خلف .
حديث آخر في معناه :
قال أحمد : حدثنا عتاب ، أخبرنا عبد الله ( ح ) وعلي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أخبرنا أسامة بن زيد ، أخبرني محمد بن حمزة ; أنه سمع أباه يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " على ظهر كل بعير شيطان ، فإن ركبتموها فسموا الله ، عز وجل ، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم " .
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله ، كما ذكر الله عنهم في سورة " الأنعام " ، في قوله : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ) [ الأنعام : 136 ] . وكذلك جعلوا له من قسمي البنات والبنين أخسهما وأردأهما وهو البنات ، كما قال تعالى : ( ألكم الذكر وله الأنثى . تلك إذا قسمة ضيزى ) [ النجم : 21 ، 22 ] . وقال هاهنا : ( وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين )