تفسير
حم
1
تقدم تفسير الحروف المتقطعة
هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين وأطلق، ولم يذكر المتعلق، ليدل على أنه مبين لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والآخرة.
{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } هذا المقسم عليه، أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها، وهذا من بيانه. وذكر الحكمة في ذلك فقال: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الأذهان.
{ وَإِنَّهُ } أي: هذا الكتاب { لَدَيْنَا } في الملأ الأعلى في أعلى الرتب وأفضلها { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } أي: لعلي في قدره وشرفه ومحله، حكيم فيما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والأخبار، فليس فيه حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان.
ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن لا يترك عباده هملا، لا يرسل إليهم رسولا، ولا ينزل عليهم كتابا، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال:
{ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا } أي: أفنعرض عنكم، ونترك إنزال الذكر إليكم، ونضرب عنكم صفحا، لأجل إعراضكم، وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب، ونوضح لكم فيه كل شيء، فإن آمنتم به واهتديتم، فهو من توفيقكم، وإلا قامت عليكم الحجة، وكنتم على بينة من أمركم.
يقول تعالى: إن هذه سنتنا في الخلق، أن لا نتركهم هملا، فكم { أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ } يأمرونهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له، ولم يزل التكذيب موجودا في الأمم.
{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } جحدا لما جاء به، وتكبرا على الحق.
{ فَأَهْلَكْنَا أَشَدّ } من هؤلاء { بَطْشًا } أي: قوة وأفعالا وآثارا في الأرض، { وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ } أي: مضت أمثالهم وأخبارهم، وبينا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب والإنكار.
يخبر تعالى عن المشركين، أنك لو { سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ } الله وحده لا شريك له، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات، العليم بظواهر الأمور وبواطنها، وأوائلها وأواخرها، فإذا كانوا مقرين بذلك، فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك؟! وكيف يشركون به من لا يخلق ولا يرزق، ولا يميت ولا يحيي؟!
ثم ذكر أيضا من الأدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره، بما خلقه لعباده من الأرض التي مهدها وجعلها قرارا للعباد، يتمكنون فيها من كل ما يريدون.
{ وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا } أي: جعل منافذ بين سلاسل الجبال المتصلة، تنفذون منها إلى ما وراءها من الأقطار. { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } في السير في الطرق ولا تضيعون، ولعلكم تهتدون أيضا في الاعتبار بذلك والادكار فيه.
{ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ } لا يزيد ولا ينقص، ويكون أيضا بمقدار الحاجة، لا ينقص بحيث لا يكون فيه نفع، ولا يزيد بحيث يضر العباد والبلاد، بل أغاث به العباد، وأنقذ به البلاد من الشدة، ولهذا قال: { فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } أي: أحييناها بعد موتها، { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي: فكما أحيا الأرض الميتة الهامدة بالماء، كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ، ليجازيكم بأعمالكم.
{ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي: الأصناف جميعها، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، من ليل ونهار، وحر وبرد، وذكر وأنثى، وغير ذلك. { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ } أي: السفن البحرية، الشراعية والنارية، مَا تَرْكَبُونَ { و } من { الأنعام ما تركبون لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ }
وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور الأنعام، أي: لتستقروا عليها، { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها، والثناء عليه تعالى بذلك، ولهذا قال: { وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي: لولا تسخيره لنا ما سخر من الفلك، والأنعام، ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه، ولكن من لطفه وكرمه تعالى، سخرها وذللها ويسر أسبابها.
والمقصود من هذا، بيان أن الرب الموصوف بما ذكره، من إفاضة النعم على العباد، هو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويسجد.
يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين، الذين جعلوا للّه تعالى ولدا، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحد، وإن ذلك باطل من عدة أوجه:
منها: أن الخلق كلهم عباده، والعبودية تنافي الولادة.
ومنها: أن الولد جزء من والده، واللّه تعالى بائن من خلقه، مباين لهم في صفاته ونعوت جلاله، والولد جزء من الوالد، فمحال أن يكون للّه تعالى ولد.