تفسير
حم
1
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا منكرا فقال أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبدالوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج عن أرطاة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أخبرني عن تفسير قول الله تعالى "حم عسق" قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعـرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله عنه أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبدالإله وعبدالله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله تعالى "حم عسق" يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلا منه سين يعني سيكون ق يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع فإنه قال حدثنا أبو طالب عبدالجبار بن عاصم حدثنا أبو عبدالله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكـم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر "حم عسق" فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا قال حم اسم من أسماء الله تعالى قال فعين؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر قال فسين؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال فقاف؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس.
تفسير
عسق
2
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا منكرا فقال أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبدالوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج عن أرطاة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أخبرني عن تفسير قول الله تعالى "حم عسق" قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعـرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله عنه أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبدالإله وعبدالله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله تعالى "حم عسق" يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلا منه سين يعني سيكون ق يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع فإنه قال حدثنا أبو طالب عبدالجبار بن عاصم حدثنا أبو عبدالله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكـم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر "حم عسق" فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا قال حم اسم من أسماء الله تعالى قال فعين؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر قال فسين؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال فقاف؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس.
وقوله : ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) أي : كما أنزل إليك هذا القرآن ، كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك . وقوله : ( الله العزيز ) أي : في انتقامه ، ( الحكيم ) في أقواله وأفعاله .
قال : الإمام مالك - رحمه الله - عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي فيفصم عني قد وعيت ما قال . وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني ، فأعي ما يقول " قالت عائشة فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا .
أخرجاه في الصحيحين ، ولفظه للبخاري .
وقد رواه الطبراني عن عبد الله ابن الإمام أحمد ، عن أبيه ، عن عامر بن صالح ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن الحارث بن هشام ; أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال : " مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قاله " قال : " وهو أشده علي " قال : " وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول " .
وقال : الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك ، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض " تفرد به أحمد .
وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول شرح البخاري ، بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقوله تعالى : ( له ما في السموات وما في الأرض ) أي : الجميع عبيد له وملك له ، تحت قهره وتصريفه ، ( وهو العلي العظيم ) كقوله تعالى : ( الكبير المتعال ) [ الرعد : 9 ] ( وهو العلي الكبير ) [ سبأ : 23 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقوله : ( تكاد السموات يتفطرن من فوقهن ) قال ابن عباس ، وانلضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وكعب الأحبار : أي فرقا ، من العظمة ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرو لمن في الأرض ) كقوله : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) [ غافر : 7 ] .
.
وقوله : ( ألا إن الله هو الغفور الرحيم ) إعلام بذلك وتنويه به .
وقوله : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ) يعني : المشركين ، ( الله حفيظ عليهم ) أي : شهيد على أعمالهم ، يحصيها ويعدها عدا ، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء . ( وما أنت عليهم بوكيل ) أي : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل .
يقول تعالى : وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ، ( أوحينا إليك قرآنا عربيا ) أي : واضحا جليا بينا ، ( لتنذر أم القرى ) وهي مكة ، ( ومن حولها ) أي : من سائر البلاد شرقا وغربا ، وسميت مكة " أم القرى " ; لأنها أشرف من سائر البلاد ، لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها . ومن أوجز ذلك وأدله ما قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - وهو واقف بالحزورة في سوق مكة - : " والله ، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " .
وهكذا رواية الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث الزهري ، به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقوله : ( وتنذر يوم الجمع ) ، وهو يوم القيامة ، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد .
وقوله : ( لا ريب فيه ) أي : لا شك في وقوعه ، وأنه كائن لا محالة . وقوله : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) ، كقوله : ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ) [ التغابن : 9 ] أي : يغبن أهل الجنة أهل النار ، وكقوله تعالى : ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ) [ هود : 103 - 105 ] .
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا ليث ، حدثني أبو قبيل المعافري ، عن شفي الأصبحي ، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابان ، فقال : " أتدرون ما هذان الكتابان ؟ " قال : قلنا : لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال للذي في يده اليمنى : " هذا كتاب من رب العالمين ، بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا " ثم قال للذي في يساره : " هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا " فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فلأي شيء إذا نعمل إن كان هذا أمرا قد فرغ منه ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سددوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل النار ، وإن عمل أي عمل " ثم قال بيده فقبضها ، ثم قال : " فرغ ربكم عز وجل من العباد " ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : " فريق في الجنة " ، ونبذ باليسرى فقال : " فريق في السعير "
وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر ، كلاهما عن أبي قبيل ، عن شفي بن ماتع الأصبحي ، عن عبد الله بن عمرو ، به .
وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .
وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر ، عن سعيد بن عثمان ، عن أبي الزاهرية ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره بنحوه . وعنده زيادات منها : ثم قال : " فريق في الجنة وفريق في السعير ، عدل من الله عز وجل " .
ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن عبد الله بن صالح - كاتب الليث - عن الليث ، به .
ورواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي قبيل ، عن شفي ، عن رجل من الصحابة ، فذكره .
ثم روي عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح ، عن يحيى بن أبي أسيد ; أن أبا فراس حدثه : أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : إن الله لما خلق آدم نفضه نفض المزود ، وأخرج منه كل ذريته ، فخرج أمثال النغف ، فقبضهم قبضتين ، ثم قال : شقي وسعيد ، ثم ألقاهما ، ثم قبضهما فقال : ( فريق في الجنة ، وفريق في السعير .
وهذا الموقوف أشبه بالصواب ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - أخبرنا الجريري ، عن أبي نضرة ، أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له : أبو عبد الله - دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي ، فقالوا له : ما يبكيك ؟ ألم يقل لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني " قال : بلى ، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله قبض بيمينه قبضة ، وأخرى باليد الأخرى ، قال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ولا أبالي " فلا أدري في أي القبضتين أنا .
وأحاديث القدر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جدا ، منها حديث علي ، وابن مسعود ، وعائشة ، وجماعة جمة .
وقوله : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ) أي : إما على الهداية أو على الضلالة ، ولكنه تعالى فاوت بينهم ، فهدى من يشاء إلى الحق ، وأضل من يشاء عنه ، وله الحكمة والحجة البالغة ; ولهذا قال : ( ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير )
وقال : ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي سويد ، حدثه عن ابن حجيرة : أنه بلغه أن موسى ، عليه السلام ، قال : : يا رب خلقك الذين خلقتهم ، جعلت منهم فريقا في الجنة وفريقا في النار ، لو ما أدخلتهم كلهم الجنة ؟ ! فقال : يا موسى ، ارفع ذرعك . فرفع ، قال : قد رفعت . قال : ارفع . فرفع ، فلم يترك شيئا ، قال : يا رب قد رفعت ، قال : ارفع . قال : قد رفعت ، إلا ما لا خير فيه . قال : كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة ، إلا ما لا خير فيه .
يقول تعالى منكرا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، ومخبرا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، فإنه القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير .
ثم قال : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) أي : مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء ، ( فحكمه إلى الله ) أي : هو الحاكم فيه بكتابه ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كقوله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ النساء : 59 ] . .
( ذلكم الله ربي ) أي : الحاكم في كل شيء ، ( عليه توكلت وإليه أنيب ) أي : أرجع في جميع الأمور .
وقوله : ( فاطر السموات والأرض ) أي : خالقهما وما بينهما ، ( جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) أي : من جنسكم وشكلكم ، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى ، ( ومن الأنعام أزواجا ) أي : وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج .
وقوله : ( يذرؤكم فيه ) أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا ، خلقا من بعد خلق ، وجيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، من الناس والأنعام .
وقال البغوي رحمه الله : ( يذرؤكم فيه ) أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : في هذا الوجه من الخلقة .
قال مجاهد : ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام .
وقيل : " في " بمعنى " الباء " ، أي : يذرؤكم به .
( ليس كمثله شيء ) أي : ليس كخالق الأزواج كلها شيء ; لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، ( وهو السميع البصير )
وقوله : ( له مقاليد السموات والأرض ) تقدم تفسيره في " سورة الزمر " ، وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما ، ( يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي : يوسع على من يشاء ، ويضيق على من يشاء ، وله الحكمة والعدل التام ، ( إنه بكل شيء عليم )
يقول تعالى لهذه الأمة : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ) ، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح ، عليه السلام وآخرهم وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم : إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، عليهم السلام . وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية " الأحزاب " عليهم في قوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) الآية [ الأحزاب : 7 ] . والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو : عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] . وفي الحديث : " نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " أي : القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم ، كقوله تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) [ المائدة : 48 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) أي : وصى الله [ سبحانه و ] تعالى جميع الأنبياء ، عليهم السلام ، بالائتلاف والجماعة ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف .
وقوله : ( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) أي : شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .
ثم قال : ( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) أي : هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ; ولهذا قال :
( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ) أي : إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقة .
ثم قال [ الله ] تعالى : ( ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى ) أي : لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد ، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعا .
وقوله : ( وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ) يعني : الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق ( لفي شك منه مريب ) أي : ليسوا على يقين من أمرهم ، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم ، بلا دليل ولا برهان ، وهم في حيرة من أمرهم ، وشك مريب ، وشقاق بعيد .
شتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات ، كل منها منفصلة عن التي قبلها ، [ لها ] حكم برأسه - قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه .
قوله ( فلذلك فادع ) أي : فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم ، فادع الناس إليه .
وقوله : ( واستقم كما أمرت ) أي : واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله ، كما أمركم الله عز وجل .
وقوله : ( ولا تتبع أهواءهم ) يعني : المشركين فيما اختلقوه ، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان .
وقوله : ( وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ) أي : صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم .
وقوله : ( وأمرت لأعدل بينكم ) أي : في الحكم كما أمرني الله .
وقوله : ( الله ربنا وربكم ) أي : هو المعبود ، لا إله غيره ، فنحن نقر بذلك اختيارا ، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا ، فله يسجد من في العالمين طوعا واختيارا .
وقوله : ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) أي : نحن برآء منكم ، كما قال تعالى : ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) [ يونس : 41 ] .
وقوله : ( لا حجة بيننا وبينكم ) قال مجاهد : أي لا خصومة . قال السدي : وذلك قبل نزول آية السيف . وهذا متجه لأن هذه الآية مكية ، وآية السيف بعد الهجرة .
وقوله : ( الله يجمع بيننا ) أي : يوم القيامة ، كقوله : ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ) [ سبأ : 26 ] .
وقوله : ( وإليه المصير ) أي : المرجع والمآب يوم الحساب .