تفسير سورة النساء الآية 11 تفسير ابن كثير

تفسير سورة النساء الآية 11 بواسطة تفسير ابن كثير هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 4 في المصحف الكريم وعدد آياتها 176.

تفسير آيات سورة النساء

تفسير يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۚ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 11

هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض ، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك ، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة ، والحجاج بين الأئمة ، فموضعه كتاب " الأحكام " فالله المستعان .
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض ، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك . وقد روى أبو داود وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة " .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ، تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم ، وهو ينسى ، وهو أول شيء ينتزع من أمتي " .
رواه ابن ماجه ، وفي إسناده ضعف .
وقد روي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر . قال [ سفيان ] ابن عيينة : إنما سمى الفرائض نصف العلم; لأنه يبتلى به الناس كلهم .
وقال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام : أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني ابن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين ، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا ، فدعا بماء فتوضأ منه ، ثم رش علي ، فأفقت ، فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) .
وكذا رواه مسلم والنسائي ، من حديث حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج به ، ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر .
حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية : قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله - هو ابن عمرو الرقي - عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال . قال : فقال : " يقضي الله في ذلك " . قال : فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك " .
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طرق ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، به . قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه .
والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي ، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ، ولم يكن له بنات ، وإنما كان يورث كلالة ، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري ، رحمه الله ، فإنه ذكره هاهنا . والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية ، والله أعلم .
فقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) أي : يأمركم بالعدل فيهم ، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث ، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث ، وفاوت بين الصنفين ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين; وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشم المشقة ، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى .
وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم أنه أرحم بهم منهم ، كما جاء في الحديث الصحيح .
وقد رأى امرأة من السبي تدور على ولدها ، فلما وجدته أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟ " قالوا : لا يا رسول الله : قال : " فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها " .
وقال البخاري هاهنا : حدثنا محمد بن يوسف ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث ، وجعل للزوجة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض ، للولد الذكر والأنثى والأبوين ، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى البنت النصف . ويعطى الغلام الصغير . وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم ، ولا يحوز الغنيمة . . اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه ، أو نقول له فيغير ، فقال بعضهم : يا رسول الله ، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ، ولا تقاتل القوم ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيئا . . وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ، ويعطونه الأكبر فالأكبر . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا .
وقوله : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) قال بعض الناس : قوله : ( فوق ) زائدة وتقديره : فإن كن نساء اثنتين كما في قوله [ تعالى ] ( فاضربوا فوق الأعناق ) [ الأنفال : 12 ] وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك; فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع ، ثم قوله : ( فلهن ثلثا ما ترك ) لو كان المراد ما قالوه لقال : فلهما ثلثا ما ترك . وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة ، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين . وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين ، فدل الكتاب والسنة على ذلك ، وأيضا فإنه قال : ( وإن كانت واحدة فلها النصف ) فلو كان للبنتين النصف [ أيضا ] لنص عليه ، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم .
وقوله : ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس [ مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ] ) إلى آخره ، الأبوان لهما في الميراث أحوال :
أحدها : أن يجتمعا مع الأولاد ، فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة ، فرض لها النصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس ، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب ، فيجمع له - والحالة هذه - بين هذه الفرض والتعصيب .
الحال الثاني : أن ينفرد الأبوان بالميراث ، فيفرض للأم - والحالة هذه - الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض ، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم ، وهو الثلثان ، فلو كان معهما - والحالة هذه - زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع . ثم اختلف العلماء : ما تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين; لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما . وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ ثلثيه وهو قول عمر وعثمان ، وأصح الروايتين عن علي . وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت ، وهو قول الفقهاء السبعة ، والأئمة الأربعة ، وجمهور العلماء - رحمهم الله .
والقول الثاني : أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله : ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ) فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا . وهو قول ابن عباس . وروي عن علي ، ومعاذ بن جبل ، نحوه . وبه يقول شريح وداود بن علي الظاهري واختاره الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه " الإيجاز في علم الفرائض " .
وهذا فيه نظر ، بل هو ضعيف; لأن ظاهر الآية إنما هو [ ما ] إذا استبد بجميع التركة ، فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة ، فتأخذ ثلثه ، كما تقدم .
والقول الثالث : أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة ، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر ، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة ، فيبقى خمسة للأب . وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي; لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال ، فتكون المسألة من ستة : للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث ما بقي وهو سهم ، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان . ويحكى هذا عن محمد بن سيرين ، رحمه الله ، وهو مركب من القولين الأولين ، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا . والصحيح الأول ، والله أعلم .
والحال الثالث من أحوال الأبوين : وهو اجتماعهما مع الإخوة ، وسواء كانوا من الأبوين ، أو من الأب ، أو من الأم ، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا ، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، فيفرض لها مع وجودهم السدس ، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي .
وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور . وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث ، قال الله تعالى : ( فإن كان له إخوة ) فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة . فقال عثمان : لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ، ومضى في الأمصار ، وتوارث به الناس .
وفي صحة هذا الأثر نظر ، فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس ، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به ، والمنقول عنهم خلافه .
وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه أنه قال : الأخوان تسمى إخوة وقد أفردت لهذه المسألة جزءا على حدة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة ، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك ، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم .
وهذا كلام حسن . لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم ، وهذا قول شاذ ، رواه ابن جرير في تفسيره فقال :
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه عن ابن عباس ، قال : السدس الذي حجبته الإخوة لأم لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم .
ثم قال ابن جرير : وهذا قول مخالف لجميع الأمة ، وقد حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا عمرو ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس أنه قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
وقوله : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) أجمع العلماء سلفا وخلفا : أن الدين مقدم على الوصية ، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة . وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير ، من حديث أبي إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال : إنكم تقرءون ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه . ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم .
قلت : لكن كان حافظا للفرائض معتنيا بها وبالحساب فالله أعلم .
وقوله : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) أي : إنما فرضنا للآباء وللأبناء ، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية ، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللوالدين الوصية ، كما تقدم عن ابن عباس ، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ، ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم; لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي - أو الأخروي أو هما - من أبيه ما لا يأتيه من ابنه ، وقد يكون بالعكس; فلهذا قال : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) أي : كأن النفع متوقع ومرجو من هذا ، كما هو متوقع ومرجو من الآخر; فلهذا فرضنا لهذا ولهذا ، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث ، والله أعلم .
وقوله : ( فريضة من الله ) أي : [ من ] هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث ، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض - هو فرض من الله حكم به وقضاه ، والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها ، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه; ولهذا قال : ( إن الله كان عليما حكيما )