تفسير سورة النور تفسير ابن كثير

تفسير سورة النور بواسطة تفسير ابن كثير هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مدنية وجاء ترتيبها 24 في المصحف الكريم وعدد آياتها 64.

تفسير آيات سورة النور

تفسير سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 1

سورة النور وهي مدنية .
يقول تعالى : هذه ( سورة أنزلناها ) فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها .
( وفرضناها ) قال مجاهد وقتادة : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي ، والحدود .
وقال البخاري : ومن قرأ " فرضناها " يقول : فرضنا عليكم وعلى من بعدكم .
( وأنزلنا فيها آيات بينات ) أي : مفسرات واضحات ، ( لعلكم تذكرون ) .

تفسير الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 2

ثم قال تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع; فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا ، وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل . فأما إذا كان بكرا لم يتزوج ، فإن حده مائة جلدة كما في الآية ويزاد على ذلك أن يغرب عاما [ عن بلده ] عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله; فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام ، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب .
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عسيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ ابني [ منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها .
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :
حدثني ابن شهاب ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن الله بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا وهذا قطعة منه ، فيها مقصودنا هاهنا .
وروى الإمام أحمد ، عن هشيم ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف; أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وإن أناسا يقولون : ما بال الرجم؟ في كتاب الله الجلد . وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده . ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت .
وأخرجه النسائي ، من حديث عبيد الله بن عبد الله ، به .
وقد روى أحمد أيضا ، عن هشيم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تخدعن عنه; فإنه حد من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده . ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا .
وروى أحمد أيضا ، عن يحيى القطان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم .
الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عمر ، وقال : صحيح .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا ابن عون ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : " والشيخ والشيخة فارجموهما البتة " . قال مروان : ألا كتبتها في المصحف؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك . قال : قلنا : فكيف؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكتبني آية الرجم : قال : " لا أستطيع الآن " . هذا أو نحو ذلك .
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غندر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن كثير بن الصلت ، عن زيد بن ثابت ، به .
وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي حكمها معمولا به ، ولله الحمد .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زنت مع الأجير . ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية . وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلدهم قبل الرجم . وإنما وردت الأحاديث الصحاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد; ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشراحة وكانت قد زنت وهي محصنة ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر ، جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم " .
وقوله : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) أي : في حكم الله . لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية [ ألا تكون حاصلة ] على ترك الحد ، [ وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد ] فلا يجوز ذلك .
قال مجاهد : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل . وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح . وقد جاء في الحديث : " تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب " . وفي الحديث الآخر : " لحد يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " .
وقيل : المراد : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فلا تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرح .
قال عامر الشعبي : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : رحمة في شدة الضرب . وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح . وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع ثيابه ، ثم تلا ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فقلت : هذا في الحكم؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع ، عن نافع ، [ عن ] ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها - قال : قلت : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : يا بني ، ورأيتني أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت .
وقوله : ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي : فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرحا; ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك . وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : " ولك في ذلك أجر " .
وقوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .
قال الحسن البصري في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) يعني : علانية .
ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) الطائفة : الرجل فما فوقه .
وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف . وكذا قال عكرمة; ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدق على واحد .
وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان . وبه قال إسحاق بن راهويه . وكذا قال سعيد بن جبير : ( طائفة من المؤمنين ) قال : يعني : رجلين فصاعدا .
وقال الزهري : ثلاثة نفر فصاعدا .
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وهب ، عن الإمام مالك في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا; لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدا . وبه قال الشافعي .
وقال ربيعة : خمسة . وقال الحسن البصري : عشرة . وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين; ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بقية قال : سمعت نصر بن علقمة في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة .

تفسير الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ 3

هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة . أي : لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة ، لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك : ( الزانية لا ينكحها إلا زان ) أي : عاص بزناه ، ( أو مشرك ) لا يعتقد تحريمه .
قال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) قال : ليس هذا بالنكاح ، إنما هو الجماع ، لا يزني بها إلا زان أو مشرك .
وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا . وقد روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد ، نحو ذلك .
وقوله تعالى : ( وحرم ذلك على المؤمنين ) أي : تعاطيه والتزويج بالبغايا ، أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وحرم ذلك على المؤمنين ) قال : حرم الله الزنى على المؤمنين .
وقال قتادة ، ومقاتل بن حيان : حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا ، وتقدم في ذلك فقال : ( وحرم ذلك على المؤمنين )
وهذه الآية كقوله تعالى : ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) [ النساء : 25 ] وقوله ( محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) الآية [ المائدة : 5 ] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب ، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح ، حتى يتوب توبة صحيحة; لقوله تعالى : ( وحرم ذلك على المؤمنين )
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر بن سليمان قال : قال أبي : حدثنا الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها : " أم مهزول " كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه - قال : فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو : ذكر له أمرها - قال : فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) .
وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها : " أم مهزول " وكانت تسافح ، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ، فأنزل الله عز وجل : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) .
[ و ] قال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا روح بن عبادة بن عبيد الله بن الأخنس ، أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : كان رجل يقال له " مرثد بن أبي مرثد " وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها " عناق " ، وكانت صديقة له ، وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت " عناق " فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إلي عرفتني ، فقالت : مرثد؟ فقلت : مرثد فقالت : مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة . قال : فقلت يا عناق ، حرم الله الزنى . فقالت يا أهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم . قال : فتبعني ثمانية ودخلت الحندمة فانتهيت إلى غار - أو كهف فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم الله عني - قال : ثم رجعوا ، فرجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر ، ففككت عنه أكبله ، فجعلت أحمله ويعينني ، حتى أتيت به المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا؟ أنكح عناقا؟ - مرتين - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد علي شيئا ، حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا مرثد ، ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة [ والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ] ) فلا تنكحها " ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقد رواه أبو داود والنسائي ، في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسدد أبو الحسن ، حدثنا عبد الوارث ، عن حبيب المعلم ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " .
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه ، عن مسدد وأبي معمر - عبد الله بن عمرو - كلاهما ، عن عبد الوارث ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أخيه عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يسار - مولى ابن عمر - قال : أشهد لسمعت سالما يقول : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يدخلون الجنة ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة - المتشبهة بالرجال - والديوث . وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى " .
ورواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يزيد بن زريع ، عن عمر بن محمد العمري ، عن عبد الله بن يسار ، به .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا الوليد بن كثير ، عن قطن بن وهب ، عن عويمر بن الأجدع ، عمن حدثه ، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : حدثني عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر ، والعاق ، والديوث الذي يقر في أهله الخبث " .
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا شعبة ، حدثني رجل - من آل سهل بن حنيف - ، عن محمد بن عمار ، عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة ديوث " .
يستشهد به لما قبله من الأحاديث .
وقال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سلام بن سوار ، حدثنا كثير بن سليم ، عن الضحاك بن مزاحم : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ] " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا ، فليتزوج الحرائر " .
في إسناده ضعف .
قال الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتاب " الصحاح في اللغة : " الديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب " النكاح " من سننه : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن علية ، عن يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة وغيره ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير - وعبد الكريم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس - عبد الكريم رفعه إلى ابن عباس ، وهارون لم يرفعه - قالا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي امرأة [ هي ] من أحب الناس إلي وهي لا تمنع يد لامس قال : " طلقها " . قال : لا صبر لي عنها قال : " استمتع بها " ، ثم قال النسائي : هذا الحديث غير ثابت ، وعبد الكريم ليس بالقوي ، وهارون أثبت منه ، وقد أرسل الحديث وهو ثقة ، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم . .
قلت : وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث ، وقد خالفه هارون بن رئاب ، وهو تابعي ثقة من رجال مسلم ، فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي . لكن قد رواه النسائي في كتاب " الطلاق " ، عن إسحاق بن راهويه ، عن النضر بن شميل عن حماد بن سلمة ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس مسندا ، فذكره بهذا الإسناد ، رجاله على شرط مسلم ، إلا أن النسائي بعد روايته له قال : " وهذا خطأ ، والصواب مرسل " ورواه غير النضر على الصواب .
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود ، عن الحسين بن حريث ، أخبرنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسين بن واقد ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وهذا إسناد جيد .
وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعف له ، كما تقدم ، عن النسائي ، وكما قال الإمام أحمد : هو حديث منكر .
وقال ابن قتيبة : إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا . وحكاه النسائي في سننه ، عن بعضهم فقال : وقيل : " سخية تعطي " ، ورد هذا بأنه لو كان المراد لقال : لا ترد يد ملتمس .
وقيل : المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس ، لا أن المراد أن هذا واقع منها ، وأنها تفعل الفاحشة; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها . فإن زوجها - والحالة هذه - يكون ديوثا ، وقد تقدم الوعيد على ذلك . ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد ، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها . فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها; لأن محبته لها محققة ، ووقوع الفاحشة منها متوهم فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قالوا : فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج ، كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن ابن أبي ذئب ، قال : سمعت [ شعبة ] - مولى ابن عباس ، رضي الله عنه - قال : سمعت ابن عباس وسأله رجل قال : إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة ، فأردت أن أتزوجها ، فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية . فقال ابن عباس : ليس هذا في هذا ، انكحها فما كان من إثم فعلي .
وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب . قال : ذكر عنده ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) قال : كان يقال : نسختها [ الآية ] التي بعدها : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) [ النور : 32 ] قال : كان يقال الأيامى من المسلمين .
وهكذا رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الناسخ والمنسوخ " له ، عن سعيد بن المسيب . ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله .

تفسير وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 4

هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة ، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضا ، ليس في هذا نزاع بين العلماء . فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله ، رد عنه الحد; ولهذا قال تعالى : ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ) ، فأوجب على القاذف إذا لم يقم بينة على صحة ما قاله ثلاثة أحكام :
أحدها : أن يجلد ثمانين جلدة .
الثاني : أنه ترد شهادته دائما .
الثالث : أن يكون فاسقا ليس بعدل ، لا عند الله ولا عند الناس .

تفسير إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 5

ثم قال تعالى : ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) ، اختلف العلماء في هذا الاستثناء : هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب ، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى ، سواء تاب أو أصر ، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف - فذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته ، وارتفع عنه حكم الفسق . ونص عليه سعيد بن المسيب - سيد التابعين - وجماعة من السلف أيضا .
وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، فيرتفع الفسق بالتوبة ، ويبقى مردود الشهادة أبدا . وممن ذهب إليه من السلف القاضي - شريح ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب ، إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان ، فحينئذ تقبل شهادته ، والله أعلم .

تفسير وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 6

هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها ، كما أمر الله عز وجل وهو أن يحضرها إلى الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء ، ( إنه لمن الصادقين ) أي : فيما رماها به من الزنى ،

تفسير وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ 7

( والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ) فإذا قال ذلك ، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وحرمت عليه أبدا ، ويعطيها مهرها ، ويتوجه عليها حد الزنى ، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، أي : فيما رماها به ، ( والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) ولهذا قال :

تفسير وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ 8

( ويدرأ عنها العذاب ) يعني : الحد ،

تفسير وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ 9

( أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) فخصها بالغضب ، كما أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنى إلا وهو صادق معذور ، وهي تعلم صدقه فيما رماها به . ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها . والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه .
ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه ، ورأفته بهم ، في شرعه لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من الضيق ،

تفسير وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ 10

فقال : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) أي : لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم ، ( وأن الله تواب ) [ أي ] : على عباده - وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة - ( حكيم ) فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه .
وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية ، وذكر سبب نزولها ، وفيمن نزلت فيه من الصحابة ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، أخبرنا عباد بن منصور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) ، قال سعد بن عبادة - وهو سيد الأنصار - : هكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ " قالوا : يا رسول الله ، لا تلمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قط [ إلا بكرا ، وما طلق امرأة له قط ] فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ، من شدة غيرته . فقال سعد : والله - يا رسول الله - إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل ، لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . قال : فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم - فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يهجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به ، واشتد عليه ، واجتمعت الأنصار فقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ، ويبطل شهادته في المسلمين . فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا . وقال هلال : يا رسول الله ، إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به ، والله يعلم إني لصادق . فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه ، إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي - وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك ، في تربد وجهه . يعني : فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي - فنزلت : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم ) الآية ، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أبشر يا هلال ، قد جعل الله لك فرجا ومخرجا " . فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي ، عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلوا إليها " . فأرسلوا إليها ، فجاءت ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال : والله - يا رسول الله - لقد صدقت عليها . فقالت : كذب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاعنوا بينهما " . فقيل لهلال : اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كان في الخامسة قيل له : يا هلال ، اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها . فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قيل [ لها : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل ] لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى ألا [ بيت لها عليه ولا ] قوت لها ، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ، ولا متوفى عنها . وقال : " إن جاءت به أصيهب أريسح حمش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فهو الذي رميت به " فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " .
قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرا على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب .
ورواه أبو داود عن الحسن بن علي ، عن يزيد بن هارون ، به نحوه مختصرا .
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة . فمنها ما قال البخاري : حدثني محمد بن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن هشام بن حسان ، حدثني عكرمة ، عن ابن عباس; أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البينة أو حد في ظهرك " فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " البينة وإلا حد في ظهرك " . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد . فنزل جبريل ، وأنزل عليه : ( والذين يرمون أزواجهم ) ، فقرأ حتى بلغ : ( إن كان من الصادقين ) فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الله يشهد أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة . قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء " . فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا ما مضى من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " .
انفرد به البخاري من هذا الوجه وقد رواه من غير وجه ، عن ابن عباس وغيره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح - وهو ابن عمر - حدثنا عاصم - يعني : ابن كليب - ، عن أبيه ، حدثني ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله ، فرمى امرأته برجل ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يردده حتى أنزل الله : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء [ إلا أنفسهم ] ) [ فقرأ ] حتى فرغ من الآيتين ، فأرسل إليهما فدعاهما ، فقال : " إن الله ، عز وجل ، قد أنزل فيكما " . فدعا الرجل فقرأ عليه ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه ، فقال له : " كل شيء أهون عليه من لعنة الله " . ثم أرسله فقال : ( لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ) ثم دعاها بها ، فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال : " ويحك . كل شيء أهون من غضب الله " . ثم أرسلها ، فقالت : ( غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأقضين بينكما قضاء فصلا " . قال : فولدت ، فما رأيت مولودا بالمدينة أكثر غاشية منه ، فقال : " إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا ، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا " . فجاءت به يشبه الذي قذفت به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال : سمعت سعيد بن جبير قال : سئلت عن المتلاعنين أيفرق بينهما - في إمارة ابن الزبير؟ فما دريت ما أقول ، فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلت : أبا عبد الرحمن ، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ فقال : سبحان الله ، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك . فسكت فلم يجبه ، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : الذي سألتك عنه قد ابتليت به . فأنزل الله عز وجل هذه الآيات في سورة النور : ( والذين يرمون أزواجهم ) حتى بلغ : ( أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) . فبدأ بالرجل فوعظه وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال : والذي بعثك بالحق ما كذبتك . ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق إنه لكاذب . قال : فبدأ بالرجل ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فرق بينهما .
رواه النسائي في التفسير ، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان ، به وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد ، فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت عن غيظ؟ والله لئن أصبحت صالحا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فسأله . فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ؟ اللهم احكم . قال : فأنزل آية اللعان ، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طرق ، عن سليمان بن مهران الأعمش ، به .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو كامل : حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال : سل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله ، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل . قال : فلقيه عويمر فقال : ما صنعت؟ قال : ما صنعت! إنك لم تأتني بخير; سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال عويمر : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه . فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما . قال : فدعا بهما فلاعن بينهما . قال عويمر : لئن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها . قال : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبصروها ، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا " . فجاءت به على النعت المكروه .
أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي ، من طرق ، عن الزهري ، به .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن زيد بن يثيع ، عن حذيفة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به؟ قال : كنت والله فاعلا به شرا . قال : " فأنت يا عمر؟ " . قال : كنت والله فاعلا كنت أقول : لعن الله الأعجز ، وإنه خبيث . قال : فنزلت : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم )
ثم قال : لا نعلم أحدا أسنده إلا النضر بن شميل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، ثم رواه من حديث الثوري عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع مرسلا فالله أعلم .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، حدثنا مخلد بن الحسين ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لأول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة شهود وإلا فحد في ظهرك " ، فقال : يا رسول الله ، إن الله يعلم إني لصادق ، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد . فأنزل الله آية اللعان : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ) إلى آخر الآية . قال : فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى " فشهد بذلك أربع شهادات ، ثم قال له في الخامسة : " ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى " ، ففعل . ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى " . فشهدت بذلك أربع شهادات ، ثم قال لها في الخامسة : " وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنى " ، فقالت : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة ، حتى ظنوا أنها ستعترف ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت على القول ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال : " انظروه ، فإن جاءت به جعدا حمش الساقين ، فهو لشريك بن سحماء ، وإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية " . فجاءت به آدم جعدا حمش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا ما نزل فيهما من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " .

تفسير إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ 11

هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى لها ولنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل [ الله عز وجل ] براءتها صيانة لعرض الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام فقال : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة ) أي : جماعة منكم ، يعني : ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة ، فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، فإنه كان يجمعه ويستوشيه ، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ، وجوزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر ، حتى نزل القرآن ، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلهم قد حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا : ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أنزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب - وهم يحسبون أني فيه - قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام . فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي . فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني فنمت - وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش - فادلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني . وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة . فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول . فقدمت المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ، ثم يقول : " كيف تيكم؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع - وهو متبرزنا - ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا . فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكرالصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : " تعس مسطح " . فقلت لها : بئسما قلت ، تسبين رجلا [ قد ] شهد بدرا؟ قالت : أي هنتاه ، ألم تسمعي ما قال؟ قلت : وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : " كيف تيكم؟ " قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي؟ - قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمتاه ، ما يتحدث الناس؟ فقالت : أي بنية هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة ، عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت : فقلت : سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه له من الود ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر . قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : " أي بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد بن معاذ : لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت! لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [ قائم على المنبر . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ] يخفضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وبكيت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي . قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس - قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل [ لي ] ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء - قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : أما بعد يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : والله ما أدري ما أقول للرسول . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله . فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . قالت : فقلت - وأنا جارية حديثة السن ، لا أحفظ كثيرا من القرآن - : [ إني ] والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، ولئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني [ بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة تصدقوني ] ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) [ يوسف : 18 ] . قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها . قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه . قالت : فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : " أبشري يا عائشة ، أما الله فقد برأك . فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل ، هو الذي أنزل براءتي وأنزل الله عز وجل : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) عشر آيات . فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت : فقال أبو بكر ، رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره - : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة . فأنزل الله عز وجل : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى قوله ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) [ النور : 22 ] فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه . وقال : لا أنزعها منه أبدا .
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - ، عن أمري : يا زينب ، ما علمت ، أو ما رأيت [ أو ما بلغك ] ؟ فقالت يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا . قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله تعالى بالورع . وطفقت أختهاحمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك .
قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، من حديث الزهري . وهكذا رواه ابن إسحاق ، عن الزهري كذلك ، قال : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة . وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة بنحو ما تقدم ، والله أعلم .
ثم قال البخاري : وقال أبو أسامة ، عن هشام بن عروة قال : أخبرني أبي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطيبا ، فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد ، أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي ، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء ، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ، ولا غبت في سفر إلا غاب معي " . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم ، فقام رجل من الخزرج - وكانت أم حسان [ بن ثابت ] من رهط ذلك الرجل - فقال : كذبت ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم . حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد ، وما علمت . فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ، فعثرت فقالت : تعس مسطح ، فقلت : أي أم ، أتسبين ابنك؟ وسكتت ، ثم عثرت الثانية فقالت : تعس مسطح . فقلت لها : أي أم ، تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة فقالت : تعس مسطح . فانتهرتها فقالت : والله ما أسبه إلا فيك ، فقلت : في أي شأني؟ قالت : فبقرت لي الحديث . فقلت : وقد كان هذا؟ قالت : نعم والله . فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرا ، ووعكت ، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني إلى بيت أبي . فأرسل معي الغلام ، فدخلت الدار ، فوجدت أم رومان في السفل ، وأبا بكر فوق البيت يقرأ ، فقالت [ لي ] أمي : ما جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها ، وذكرت لها الحديث ، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني ، [ فقالت : يا بنية ، خفضي عليك الشأن; فإنه - والله - لقلما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها ، لها ضرائر إلا حسدنها ، وقيل فيها وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني ، فقلت : وقد علم به أبي؟ قالت : نعم . قلت : ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت : نعم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ] . فاستعبرت وبكيت ، فسمع أبو بكر صوتي ، وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها؟ قالت : بلغها الذي ذكر من شأنها . ففاضت عيناه وقال : أقسمت عليك - أي بنية - إلا رجعت إلى بيتك فرجعت ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي ، فسأل عني خادمي فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا ، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها - أو : عجينها - وانتهرها بعض أصحابه فقال : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به ، فقالت : سبحان الله . والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر . وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له ، فقال : سبحان الله . والله ما كشفت كنف أنثى قط - قالت عائشة : فقتل شهيدا في سبيل الله - قالت : وأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر ، ثم دخل وقد اكتنفني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة ، إن كنت قارفت سوءا أو ظلمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده " . قالت : وقد جاءت امرأة من الأنصار ، فهي جالسة بالباب ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إلى أبي ، فقلت له : أجبه . قال : فماذا أقول؟ فالتفت إلى أمي فقلت : أجيبيه . قالت : أقول ماذا؟ فلما لم يجيباه ، تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل - والله عز وجل يشهد إني لصادقة - ما ذاك بنافعي عندكم ، لقد تكلمتم به ، وأشربته قلوبكم ، وإن قلت : إني قد فعلت - والله يعلم أني لم أفعل - لتقولن : قد باءت به على نفسها ، وإني - والله - ما أجد لي ولكم مثلا - والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) [ يوسف : 18 ] ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته ، فسكتنا ، فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه ، وهو يمسح جبينه ويقول : " أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك " قالت : وكنت أشد ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي : قومي [ إليه ] فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه ، وكانت عائشة تقول : أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرا . وأما أختها حمنة بنت جحش ، فهلكت فيمن هلك . وكان الذي يتكلم به مسطح وحسان بن ثابت . وأما المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [ كان ] يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة . قالت : وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة أبدا ، فأنزل الله : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى آخر الآية ، يعني : أبا بكر ، ( والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين ) يعني : مسطحا ، إلى قوله : ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) [ النور : 22 ] . فقال أبو بكر : بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع .
هكذا رواه البخاري من هذا الوجه معلقا بصيغة الجزم عن أبي أسامة حماد بن أسامة [ أحد الأئمة الثقات . وقد رواه ابن جرير في تفسيره ، عن سفيان بن وكيع ، عن أبي أسامة ] به مطولا مثله أو نحوه . ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، ببعضه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزل عذري من السماء ، جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك ، فقلت : نحمد الله لا نحمدك .
وقال الإمام أحمد : حدثني ابن أبي عدي ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم .
وأخرجه أهل السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ووقع عند أبي داود تسميتهم : حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش .
فهذه طرق متعددة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها .
وقد روي من حديث أمها أم رومان ، رضي الله عنها ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن عاصم ، أخبرنا حصين ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله - بابنها - وفعل . فقالت عائشة : ولم؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث . قالت عائشة : وأي حديث؟ قالت : كذا وكذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت : نعم ، وبلغ أبا بكر؟ قالت : نعم ، فخرت عائشة ، رضي الله عنها ، مغشيا عليها ، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها ، قالت : وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما شأن هذه؟ " قلت : يا رسول الله ، أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تحدث به " . قالت : فاستوت له عائشة قاعدة فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه ( والله المستعان على ما تصفون ) [ يوسف : 18 ] قالت : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عذرها ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر ، [ فدخل فقال : " يا عائشة ، إن الله تعالى قد أنزل عذرك " . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت : نعم . قالت : فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعولهأبو بكر ] فحلف أبو بكر ألا يصله ، فأنزل الله : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى آخر الآية [ النور : 22 ] ، قال أبو بكر : بلى ، فوصله .
تفرد به البخاري دون مسلم ، من طريق حصين وقد رواه البخاري ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبي عوانة - وعن محمد بن سلام - ، عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن حصين ، به وفي لفظ أبي عوانة : حدثتني أم رومان . وهذا صريح في سماع مسروق منها ، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ ، منهم الخطيب البغدادي ، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الخطيب : وقد كان مسروق يرسله فيقول : " سئلت أم رومان " ، ويسوقه ، فلعل بعضهم كتب " سئلت " بألف ، فاعتقد الراوي أنها " سألت " ، فظنه متصلا . قال الخطيب : " وقد رواه البخاري كذلك ، ولم تظهر له علته " . كذا قال ، والله أعلم .
فقوله : ( إن الذين جاءوا بالإفك ) أي : بالكذب والبهت والافتراء ، ( عصبة ) أي : جماعة منكم ، ( لا تحسبوه شرا لكم ) أي : يا آل أبي بكر ( بل هو خير لكم ) أي : في الدنيا والآخرة ، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين ، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) [ فصلت : 42 ] ولهذا لما دخل عليها ابن عباس ، رضي الله عنه وهي في سياق الموت ، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ، ولم يتزوج بكرا غيرك ، وأنزل براءتك من السماء .
وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت عائشة وزينب ، رضي الله عنهما ، فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجي [ من السماء ] قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتابه ، حين حملني ابن المعطل على الراحلة . فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل . قالت : قلت كلمة المؤمنين .
وقوله : ( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ) أي : لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بشيء من الفاحشة ، نصيب عظيم من العذاب .
( والذي تولى كبره ) قيل : ابتدأ به . وقيل : الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه ، ( له عذاب عظيم ) أي : على ذلك .
ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سلول - قبحه الله ولعنه - وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث ، وقال ذلك مجاهد وغير واحد .
وقيل : بل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن محاسنه أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بشعره ] ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هاجهم وجبريل معك "
وقال الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة ، رضي الله عنها ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألقي له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا؟ يعني : يدخل عليك - وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك ، وقد قال الله : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) ؟ قالت : وأي عذاب أشد من العمى - وكان قد ذهب بصره - لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم . ثم قالت : إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [ شعرا ] يمتدحها به ، فقال :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت : أما أنت فلست كذلك . وفي رواية : لكنك لست كذلك .
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن قزعة ، حدثنا سلمة بن علقمة ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان - يعني ابن [ الحارث ] بن عبد المطلب - :
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ، ولست له بكفء؟ فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
فقيل : يا أم المؤمنين ، أليس هذا لغوا؟ قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساء . قيل : أليس الله يقول ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) ، قالت : أليس قد أصابه [ عذاب ] عظيم؟ [ أليس ] قد ذهب بصره وكنع بالسيف؟ تعني : الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل [ السلمي ] ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فعلاه بالسيف ، وكاد أن يقتله .

تفسير لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُبِينٌ 12

هذا تأديب من الله للمؤمنين في قضية عائشة ، رضي الله عنها ، حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السيئ ، وما ذكر من شأن الإفك ، فقال : ( لولا ) بمعنى : هلا ) إذ سمعتموه ) أي : ذلك الكلام ، أي : الذي رميت به أم المؤمنين ( ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) أي : قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم ، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى .
وقد قيل : إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته ، رضي الله عنهما ، كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار ، عن أبيه ، عن بعض رجال بني النجار; أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ، رضي الله عنها؟ قال : نعم ، وذلك الكذب . أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله . قال : فعائشة والله خير منك . قال : فلما نزل القرآن ذكر الله ، عز وجل ، من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) [ النور : 11 ] وذلك حسان وأصحابه ، الذين قالوا ما قالوا ، ثم قال : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون ) الآية ، أي : كما قال أبو أيوب وصاحبته .
وقال محمد بن عمر الواقدي : حدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان ، عن أفلح مولى أبي أيوب ، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال : بلى ، وذلك الكذب ، أفكنت يا أم أيوب [ فاعلة ذلك ] ؟ قالت : لا والله . قال : فعائشة والله خير منك . فلما نزل القرآن ، وذكر أهل الإفك ، قال الله عز وجل : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ) يعني : أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال .
ويقال : إنما قالها أبي بن كعب .
وقوله : ( ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) أي : هلا ظنوا الخير ، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به ، هذا ما يتعلق بالباطن ، ( وقالوا ) أي : بألسنتهم ( هذا إفك مبين ) أي : كذب ظاهر على أم المؤمنين ، فإن الذي وقع لم يكن ريبة ، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة ، والجيش بكماله يشاهدون ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ، ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رءوس الأشهاد ، بل كان يكون هذا - لو قدر - خفية مستورا ، فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت ، والقول الزور ، والرعونة الفاحشة [ الفاجرة ] والصفقة الخاسرة .

تفسير لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ 13

قال الله تعالى : ( لولا ) أي : هلا ( جاءوا عليه ) أي : على ما قالوه ( بأربعة شهداء ) يشهدون على صحة ما جاءوا به ( فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) أي : في حكم الله كذبة فاجرون .

تفسير وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 14

يقول [ الله ] : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة ) أيها الخائضون في شأن عائشة ، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا ، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة ، ( لمسكم في ما أفضتم فيه ) ، من قضية الإفك ، ( عذاب عظيم ) . وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه ، كمسطح ، وحسان ، وحمنة بنت جحش ، أخت زينب بنت جحش . فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه ، فليس أولئك مرادين في هذه الآية; لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه . وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين ، يكون مطلقا مشروطا بعدم التوبة ، أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه .

تفسير إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ 15

ثم قال تعالى : ( إذ تلقونه بألسنتكم ) قال مجاهد ، وسعيد بن جبير : أي : يرويه بعضكم عن بعض ، يقول هذا : سمعته من فلان ، وقال فلان كذا ، وذكر بعضهم كذا .
وقرأ آخرون " إذ تلقونه بألسنتكم . وفي صحيح البخاري عن عائشة : أنها كانت تقرؤها كذلك وتقول : هو من ولق القول . يعني : الكذب الذي يستمر صاحبه عليه ، تقول العرب : ولق فلان في السير : إذا استمر فيه ، والقراءة الأولى أشهر ، وعليها الجمهور ، ولكن الثانية مروية عن أم المؤمنين عائشة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، [ عن عائشة أنها كانت تقرأ : " إذ تلقونه " وتقول : إنما هو ولق القول - والولق : الكذب . قال ابن أبي مليكة ] : هي أعلم به من غيرها .
وقوله : ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ) أي : تقولون ما لا تعلمون .
ثم قال تعالى : ( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) أي : تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين ، وتحسبون ذلك يسيرا [ سهلا ] ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هينا ، فكيف وهي زوجة النبي الأمي ، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل! الله يغار لهذا ، وهو سبحانه وتعالى ، لا يقدر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك ، حاشا وكلا ولما [ لم يكن ذلك ] فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء ، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟! ولهذا قال تعالى ( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) ، وفي الصحيحين : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يدري ما تبلغ ، يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " وفي رواية : " لا يلقي لها بالا " .