يقول تعالى ذكره: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ) من الرجال ( أَزْوَاجِهِمْ ) بالفاحشة، فيقذفونهنّ بالزنا، ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ ) يشهدون لهم بصحة ما رموهنّ به من الفاحشة، ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: " أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ " نصبا، ولنصبهم ذلك وجهان: أحدهما: أن تكون الشهادة في قوله: ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ) مرفوعة بمضمر قبلها، وتكون " الأربع " منصوبا بمعنى الشهادة، فيكون تأويل الكلام حينئذ: فعلى أحدهم أن يشهد أربعَ شهادات بالله. والوجه الثاني: أن تكون الشهادة مرفوعة بقوله: ( إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و " الأربع " منصوبة بوقوع الشهادة عليها، كما يقال: شهادتي ألف مرة إنك لرجل سَوْء، وذلك أن العرب ترفع الأيمان بأجوبتها، فتقول: حلف صادق لأقومنّ، وشهادة عمرو ليقعدنّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: ( أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ) برفع " الأربع "، ويجعلونها للشهادة مرافعة، وكأنهم وجهوا تأويل الكلام: فالذي يلزم من الشهادة، أربعُ شهادات بالله إنه لمن الصادقين.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: " فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ" بنصب أربع، بوقوع " الشهادة " عليها، و " الشهادة " مرفوعة حينئذ على ما وصفت من الوجهين قبل. وأحبّ وجهيهما إليّ أن تكون به مرفوعة بالجواب، وذلك قوله: ( إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) وذلك أن معنى الكلام: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) تقوم مقام الشهداء الأربعة في دفع الحدّ عنه. فترك ذكر: تقوم مقام الشهداء الأربعة، اكتفاء بمعرفة السامعين بما ذكر من الكلام، فصار مرافع " الشهادة " ما وصفت.
ويعني بقوله: ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ) : فحلف أحدهم أربع أيمان بالله، من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى زوجته به من الفاحشة.(وَالْخَامِسَةُ) يقول: والشهادة الخامسة، ( أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) يقول: إن لعنة الله له واجبة وعليه حالَّة، إن كان فيما رماها به من الفاحشة من الكاذبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت به جماعة من أهل التأويل.
ذكر الرواية بذلك، وذكر السبب الذي فيه أنـزلت هذه الآية:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلية، قال: ثنا أيوب، عن عكرمة، قال: لما نـزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً قال سعد بن عبادة: الله إن أنا رأيت لَكَاعِ متفخذَها رجل فقلت بما رأيت إن في ظهري لثمانين إلى ما أجمع أربعة قد ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مَعْشَرَ الأنْصَار، ألا تَسْمَعونَ إلى ما يَقولُ سَيِّدُكُمْ؟ ". قالوا: يا رسول الله لا تَلُمْه، وذكروا من غيرته، فما تزوّج امرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة قطّ فرجع فيها أحد منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنَّ الله يَأبَى إلا ذَاكَ" فقال: صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له فرمى امرأته ، فشق ذلك على المسلمين، فقال: لا والله، لا يجعل في ظهري ثمانين أبدا، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت، قال: فأنـزل الله القرآن باللعان، فقيل له: احلف! فحلف، قال: قفوه عند الخامسة، فإنها موجبة، فقال: لا يدخله الله النار بهذا أبدا، كما درأ عنه جلد ثمانين، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت فحلف، ثم قيل: احلفي، فحلفت، ثم قال: قفوها عند الخامسة، فإنها مُوجِبة، فقيل لها: إنها مُوجبة، فتلكأت ساعة، ثم قالت: لا أُخْزي قومي، فحلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجها، وإنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ للَّذِي قِيلَ فِيهِ ما قِيلَ، قال: فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق، فكان بعد أميرا بمصر لا يُعرف نسبه، أو لا يُدْرَى من أبوه ".
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا عباد، قال: سمعت عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نـزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قال سعد بن عبادة: لهكذا أنـزلت يا رسول الله؟ لو أتيتُ لَكَاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتيَ بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مَعْشَرَ الأنْصَار أما تَسْمَعونَ إلى ما يَقُول سَيدُكُمْ؟ " قالوا: لا تلمه فإنه رجل غَيُور، ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوّجها؛ قال سعد: يا رسول الله، بأبي وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله، وأنها حقّ، ولكن عجبت لو وجدت لَكَاعِ، قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء، فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه جدا، حتى عُرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق، وما قلت إلا حقا، فإني لأرجو أن يجعل الله فرجا، قال: واجتمعت الأنصار، فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال بن أميَّة، وتبطل شهادته في المسلمين؟ فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه، فإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، إذ نـزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نـزل حتى فرغ، فأنـزل الله: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ )... إلى: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبْشِرْ يا هِلالُ، فإنَّ الله قدْ جَعَل فَرَجا " فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرْسِلُوا إلَيْها!" فجاءت، فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها، فكذّبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللهَ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكما كاذب، فَهَل مِنْكُما تائب؟ " فقال هلال: &; 19-112 &; يا رسول الله، بأبي وأمي لقد صدقتُ، وما قلت إلا حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاعِنُوا بَيْنَهُما!" قيل لهلال: يا هلال اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس، إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال: والله لا يعذّبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد الخامسة: ( أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فقيل لها عند الخامسة: اتقي الله، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ففرّق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقضى أن الولد لها، ولا يُدعى لأب، ولا يُرْمى ولدها.
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا أبو أحمد الحسين بن محمد، قال: ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: " لما قذف هلال بن أميَّة امرأته، قيل له: والله ليجلدنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين جلدة ، قال: الله أعدل من ذلك أن يضربني ضربة وقد علم أني قد رأيت حتى استيقنت، وسمعت حتى استثبتُّ، لا والله لا يضربني أبدا، فنـزلت آية الملاعنة، فدعا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزلت الآية، فقال: " الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إني لصادق. فقال له: " احلف بالله الذي لا إله إلا هو: إني لصادق " يقول ذلك أربعَ مرّات فإن كنتُ كاذبا فعليّ لعنة الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قِفُوه عِنْدَ الخامِسَة، فإنَّها مُوجِبَةٌ " ، فحلف، ثم قالت أربعا: والله الذي لا اله إلا هو إنه لمن الكاذبين، فإن كان صادقا فعليها غضب الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قِفُوها عِنْدَ الخامِسَة، فإنَّها مُوجِبة "، فتردّدت وهمَّت بالاعتراف، ثم قالت: لا أفضح قومي.
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي، قالا ثنا عَبْدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا ليلة الجمعة في المسجد، فدخل رجل فقال: لو أن رجلا وجَد مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله آية اللعان، ثم جاء الرجل بعد، فقذف امرأته، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فقال: " عَسَى أنْ تَجِيء بِهِ أسْوَدَ جَعْدًا، فجاءت به أسود جعدا ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جُبير قال: سألت ابن عمر، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أيفرق بين المتلاعنين؟ فقال: نعم، سبحان الله، إن أوّل من سأل عن ذلك فلان، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: أرأيت لو أن أحدنا رأى صاحبته على فاحشة، كيف يصنع؟ فلم يجبه في ذلك شيئا، قال: فأتاه بعد ذلك فقال: إن الذي سألت عنه قد ابتليتُ به، فأنـزل الله هذه الآية في سورة النور، فدعا الرجل فوعظه وذكَّره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: والذي بعثك بالحق، لقد رأيت وما كذبتُ عليها، قال: ودعا المرأة فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، وما رأى شيئا؛ قال: فبدأ الرجل، فشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصادقين.