القول في تأويل قوله تعالى : الر
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم تأويله: أنا الله أرى.
* ذكر من قال ذلك:
17518- حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، في قوله : ( الر )، أنا الله أرى. (1)
17519- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قوله: ( الر )، قال: أنا الله أرى.
وقال آخرون: هي حروف من اسم الله الذي هو " الرحمن ".
*ذكر من قال ذلك:
17520- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسين قال حدثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( الر ) و ( حم ) و ( نون ) حروف " الرَّحمن " مقطعةً.
17521- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان قال: ذكر سالم بن عبد الله: ( الر ) و ( حم ) و ( نون )، فقال: اسم " الرحمن " مقطع ، ثم قال: " الرحمن ".
17522- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا مندل عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: ( الر ) و ( حم ) و ( نون )، هو اسم " الرحمن ".
17523- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر : أنه سئل عن: ( الر ) و ( حم ) و ( ص )، قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسمًا من أسماء الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: هي اسم من أسماء القرآن.
*ذكر من قال ذلك:
17524- حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( الر )، اسم من أسماء القرآن.
* * *
قال أبو جعفر : وقد ذكرنا اختلاف الناس ، وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره، وذلك في أول " سورة البقرة "، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (2)
وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدرَ الذي ذكرنا ، لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا ، قوله في ( الم ) ، فأما الذين وفَّقوا بيْن معاني جميع ذلك، فقد ذكرنا قولهم هناك ، مكتفًى عن الإعادة ههنا. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قال أبو جعفر: اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تلك آيات التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
17525- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد: ( تلك آيات الكتاب الحكيم )، قال: التوراة والإنجيل.
17526-. . . . قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: ( تلك آيات الكتاب )، قال: الكُتُب التي كانت قبل القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: هذه آيات القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوّله: " هذه آيات القرآن "، ووجّه معنى (تلك) إلى معنى " هذه "، وقد بينا وجه توجيه ( تلك ) إلى هذا المعنى في " سورة البقرة " ، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
و ( الآيات )، الأعلام ، و (الكتاب)، اسم من أسماء القرآن، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. (5)
* * *
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب، لأنه لم يجيء للْتوراة والإنجيل قبلُ ذكرٌ ولا تلاوةٌ بعدُ، فيوجه إليه الخبر.
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: والرحمن، هذه آيات القرآن الحكيم.
* * *
ومعنى ( الحكيم ) ، في هذا الموضع، " المحكم " ، صرف " مُفْعَل " إلى " فعيل "، كما قيل: عَذَابٌ أَلِيمٌ ، بمعنى مؤلم، (6) وكما قال الشاعر: (7)
*أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ* (8)
وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. (9)
فمعناه إذًا: تلك آيات الكتاب المحكم ، الذي أحكمه الله وبينه لعباده، كما قال جل ثناؤه: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود : 1]
-----------------------
الهوامش :
(1) الأثر : 17518 - " يحيى بن داود بن ميمون الواسطي " ، شيخ الطبري ، مضى برقم : 4451 ، 11545 .
(2) انظر ما سلف 1 : 205 - 224 .
(3) في المطبوعة : " ومكتفيًا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب .
(4) انظر ما سلف 1 : 225 - 228 .
(5) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة ( أي ) .
وتفسير " الكتاب " فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .
(6) انظر تفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( حكم ) .
(7) هو عمرو بن معديكرب الزبيدي .
(8) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1 : 283 .
(9) انظر ما سلف 1 : 283 ، 284 ، وغيره من المواضع في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقابَ الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أنَّ الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر، فتعجَّبوا من وحينا إليه. (10)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد ! فأنـزل الله تعالى: ( أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم ) ، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا [سورة يوسف: 109].
17528- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال: ومثل ذلك: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [سورة الأعراف: 65]، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ، [سورة الأعراف: 73] ، قال الله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ، [سورة الأعراف: 69].
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أما كان عجبًا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم : أن أنذر الناس، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله: ( أن لهم قدم صدق ) ، عطفٌ على ( أنذر ) .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( قدم صدق )، فقال بعضهم: معناه: أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من صالح الأعمال.
* ذكر من قال ذلك:
17529- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم )، قال: ثواب صِدق.
17530-. . . . قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم )، قال: الأعمال الصالحة.
17531- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم )، يقول: أجرًا حسنًا بما قدَّموا من أعمالهم.
17532- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حبان، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، عن مجاهد: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم )، قال: صلاتهم وصومهم، وصدقتُهم، وتسبيحُهم. (11)
17533- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قدم صدق )، قال: خير.
17534- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قدم صدق ) ، مثله.
17535- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17536-. . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: ( قدم صدق )، ثواب صدق ، ( عند ربهم ) .
17537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
17538- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق )، قال: " القدم الصدق " ، ثواب الصّدق بما قدّموا من الأعمال.
* * *
وقال آخرون: معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.
* ذكر من قال ذلك:
17539- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح عن علي، عن ابن عباس قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم )، يقول: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم، قَدَمَ صدق.
* ذكر من قال ذلك:
17540- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن عمرو بن الجون، عن قتادة ، أو الحسن ، : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم )، قال: محمدٌ شفيعٌ لهم. (12)
17541- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) : أي سلَفَ صدقٍ عند ربهم.
17542- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، في قوله: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم )، قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثوابَ.
* * *
وذلك أنه محكيٌّ عن العرب: " هؤلاء أهْلُ القَدَم في الإسلام " أي هؤلاء الذين قدَّموا فيه خيرًا، فكان لهم فيه تقديم. ويقال: " له عندي قدم صِدْق ، وقدم سوء "، وذلك ما قدَّم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت:
لَنَــا القَــدَمُ العُلْيَـا إِلَيْـكَ وَحَلْفُنَـا
لأَوّلِنَــا فِــي طَاعَــةِ اللـهِ تَـابِعُ (13)
وقول ذي الرمة:
لَكُــمْ قَــدَمٌ لا يُنْكِـرُ النَّـاسُ أَنَّهَـا
مَـعَ الحَسَـبِ العَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى البَحْرِ (14)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وبشر الذين آمنوا أنّ لهم تقدِمة خير من الأعمال الصالحة عند ربِّهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: ( إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ )، بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به ، يعنون القرآن ، لسحر مبين.
* * *
وقرأ ذلك مسروق، وسعيد بن جبير ، وجماعة من قراء الكوفيين: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ).
* * *
وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك: أن كل موصوف بصفةٍ ، يدل الموصوف على صفته، وصفته عليه. (15)
والقارئ مخيَّرٌ في القراءة في ذلك، وذلك نظير هذا الحرف: ( قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ) ، و " لساحر مبين ". (16)
وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه " ساحر "، ووصفهم ما جاءهم به أنه " سحر " يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذْ كان ذلك كذلك ، فسواءٌ بأيِّ ذلك قرأ القارئ، لاتفاق معنى القراءتين.
* * *
وفي الكلام محذوف ، استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وهو: " فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي" ، قال الكافرون : إن هذا الذي جاءنا به لسحرٌ مبين.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا: أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم: أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاءنا به محمدٌ لسحر مبين أي : يبين لكم عنه أنه مبطِلٌ فيما يدعيه. (17)
---------------------------
الهوامش :
(10) انظر تفسير " الوحي " و " الإنذار " فيما سلف من فهارس اللغة ( وحي ) ، ( نذر ) .
(11) الأثر : 17532 - " زيد بن حباب التميمي " ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 11490 . وكان في المطبوعة : " يزيد بن حبان " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فتصرف أسوأ التصرف .
و " إبراهيم بن يزيد الخوزي " ، ضعيف ، مضى مرارًا ، آخرها رقم : 17313 .
و " الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث " ، ثقة ، مضى برقم : 16259 ، 17313 .
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " الوليد بن عبد الله ، عن أبي مغيث " ، وهو خطأ محض .
(12) الأثر : 17540 - " فضيل بن عمرو بن الجون " ، لم أجد له ترجمة . ولا أدري أهو " فضيل بن عمرو الفقيمي " ، أو غيره ! .
(13) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 13 : 209 ، وروايته هناك : " لنا القدم الأولى " .
(14) ديوانه 272 ، من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، يقول بعده :
خِـلاَلَ النَّبِـيِّ المُصْطَفَـى عِنْـدَ رَبِّهِ
وَعُثْمَـانَ وَالفَـارُوقِ بَعْـدَ أَبِـي بَكْرِ
ورواية ديوانه : " طمت على الفخر " .
(15) في المطبوعة : " نزل الموصوف " ، وفي المخطوطة : " ترك " ، وصواب قراءتها ما أثبت .
(16) انظر ما سلف 11 : 216 ، 217 .
(17) انظر تفسير " السحر " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة ( سحر ) ، ( بين ) .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهيرٍ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور ، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ، ولا يدخل أموره خلل. (18) ، ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، يقول : لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد ، إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة (19) " ، ( ذلكم الله ربكم ) ، يقول جل جلاله : هذا الذي هذه صفته ، سيِّدكم ومولاكم ، لا من لا يسمع ولا يبصر ولا يدبِّر ولا يقضي من الآلهة والأوثان ، ( فاعبدوه ) ، يقول : فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته ، وأخلصوا له العبادة ، وأفردوا له الألوهية والربوبية ، بالذلة منكم له ، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة ، ( أفلا تذكرون) ، يقول : أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج ، (20) فتنيبون إلى الإذعان بتوحيدِ ربكم وإفراده بالعبادة، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17543- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يدبر الأمر )، قال: يقضيه وحدَه.
17544- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه )، قال: يقضيه وحده.
17545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ) قال: يقضيه وحده.
17546-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17547- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
-------------------
الهوامش :
(18) انظر تفسير " الاستواء " فيما سلف 1 : 428 - 431 / 12 : 483 ، وتفسير " العرش " فيما سلف 12 : 482 / 14 : 587 .
(19) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف 12 : 481 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
، وتفسير " الإذن " فيما سلف 14 : 112 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(20) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف 12 : 493 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
القول في تأويل قوله تعالى : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصَفَ جل ثناؤه في الآية قبل هذه ، معادُكم ، أيها الناس ، يوم القيامة جميعًا. (21) ( وعد الله حقا ) ، فأخرج ( وعد الله ) مصدَّرًا من قوله: ( إليه مرجعكم ) ، لأنه فيه معنى " الوعد "، ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدًا حقًّا، فلذلك نصب (وعد الله حقا) ، ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده ، ( ثم يعيده )، يقول : ثم يعيده فيوجده حيًّا كهيئته يوم ابتدأه ، بعد فنائه وبَلائِه. (22) كما:-
17548- حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يبدأ الخلق ثم يعيده )، قال: يحييه ثم يميته ، قال أبو جعفر: وأحسبه أنا قال: " ثم يحييه ".
17549- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: ( يبدأ الخلق ثم يعيده )، قال: يحييه ثم يميته، ثم يحييه.
17550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده )، : يحييه ، ثم يميته، ثم يبدؤه ، ثم يحييه.
17551- . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بنحوه.
* * *
وقرأت قراء الأمصار ذلك: ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ )، بكسر الألف من (إنه) ، على الاستئناف.
* * *
وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه ( أَنَّهُ ) بفتح الألف من ( أنه ).
* * *
، كأنه أراد: حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ف " أنّ" حينئذ تكون رفعًا، كما قال الشاعر: (23)
أحَقًّــا عِبَـادَ اللـهِ أَنْ لَسْـتُ زَائِـرًا
رُبَــى جَنَّــة إِلا عَــلَيَّ رَقِيــبُ (24)
* * *
وقوله: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط)، يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره ، ( ليجزي الذين آمنوا) ليثيب من صدّق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، على أعمالهم الحسنة (25) ، (بالقسط) يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب ، والصالحَ من الجزاء في الآخرة ، وذلك هو " القسط" ، و " القسط" العدلُ والإنصاف، (26) كما:-
17552- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بالقسط) ، بالعدل.
* * *
وقوله: (والذين كفروا لهم شَرَاب من حميم)، فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدَّ الله للذين كفروا من العذاب، وفيه معنى العطف على الأول. لأنه تعالى ذكره عمَّ بالخبر عن معادِ جميعهم ، كفارهم ومؤمنيهم ، إليه. ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلَّ فريق بما عمل المحسنَ منهم بالإحسان ، والمسيءَ بالإساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنفُ عما أعدّ للذين كفروا من العذاب ، ما يدلُّ سامعَ ذلك على المرادِ ، ابتدأ الخبر ، والمعنيُّ العطف فقال: والذين جحدوا الله ورسولَه وكذبوا بآيات الله ، ( لهم شراب ) في جهنم (من حميم) وذلك شراب قد أُغلي واشتدّ حره ، حتى إنه فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليتساقطُ من أحدهم حين يدنيه منه فروةُ رأسه، وكما وصفه جل ثناؤه: كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ، [سورة الكهف: 29].
* * *
وأصله : " مفعول " صرف إلى " فعيل "، وإنما هو " محموم ": أي مسخّن، وكل مسخَّن عند العرب فهو حميم، (27)
ومنه قول المرقش:
وَكُـــلُّ يَـــوْمٍ لَهَــا مِقْطَــرَةٌ
فِيهَـــا كِبَــاءٌ مُعَــدٌّ وَحَــمِيمْ (28)
يعني ب " الحميم " ، الماء المسخَّن.
* * *
وقوله: (عَذَابٌ أَلِيمٌ)، يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع، (29) سوى الشراب من الحميم، بما كانوا يكفرون بالله ورسوله.
---------------------------
الهوامش :
(21) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف 12 : 287 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(22) انظر تفسير " البدء " و " العود " فيما سلف 12 : 382 - 388 .
(23) لم أعرف قائله .
(24) في المطبوعة : " أبا حبة إلا على رقيب " ، وهو تحريف لما في المخطوطة ، وهو فيها هكذا ، غير منقوط : " رباحه " ، وصواب قراءته ما أثبت .
(25) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة ( جزى ) .
(26) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 12 : 379 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(27) انظر تفسير " حميم " فيما سلف 11 : 448 ، 449 .
(28) سلف البيت وتخريجه وشرحه 11 : 448 ، وروايته هناك : " في كل ممسي " .
(29) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ألم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ، (هو الذي جعل الشمس ضياء)، بالنهار ، (والقمر نورًا) بالليل. ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمسَ وأنار القمر ، (وقدّره منازل) ، يقول: قضاه فسوّاه منازلَ ، لا يجاوزها ولا يقصر دُونها ، على حالٍ واحدةٍ أبدًا. (30)
* * *
وقال: (وقدّره منازل) ، فوحّده، وقد ذكر " الشمس " و " القمر " ، فإن في ذلك وجهين:
أحدهما : أن تكون " الهاء " في قوله: (وقدره) للقمر خاصة، لأن بالأهلة يُعرف انقضاءُ الشهور والسنين ، لا بالشمس.
والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ، [سورة التوبة: 62] ، وكما قال الشاعر: (31)
رَمَـانِي بِـأَمْرٍ كُـنْتُ مِنْـهُ وَوَالِـدِي
بَرِيًّـا, وَمِـنْ جُـولِ الطَّـوِيِّ رَمَانِي (32)
* * *
وقوله: (لتعلموا عدد السنين والحساب)، يقول: وقدّر ذلك منازل ، (لتعلموا) ، أنتم أيها الناس ، ( عدد السنين)، دخول ما يدخل منها، أو انقضاءَ ما يستقبل منها ، وحسابها ، يقول: وحساب أوقات السنين ، وعدد أيامها، وحساب ساعات أيامها ، (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ)، يقول جل ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق. يقول الحق تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحقٍّ وحدي، بغير عون ولا شريك ، (يفصل الآيات) يقول: يبين الحجج والأدلة (33) ، (لقوم يعلمون) ، إذا تدبروها، حقيقةَ وحدانية الله وصحةَ ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، من خلع الأنداد ، والبراءة من الأوثان.
---------------------
الهوامش :
(30) انظر تفسير " التقدير " فيما سلف 11 : 560 .
(31) هو ابن أحمر ، أو : الأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي .
(32) معاني القرآن للفراء 1 : 458 ، اللسان ( جول ) ، وغيرهما . وكانت بينه وبين رجل حكومة في بئر ، فقال خصمه : " إنه لص ابن لص " ، فقال هذا الشعر ، وبعده :
دَعَـانِي لِصًّـا فِي لُصُوصٍ , ومَا دَعَا
بِهَـا وَالِـدِي فِيمَـا مَضَـى رَجُـلاَن
ورواية البيت على الصواب : " ومن أجل الطوى " ، و " الطوى " : البئر . و " الجول " و " الجال " ناحية من نواحي البئر إلى أعلاها من أسفلها .
(33) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف : 14 : 152 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
، وتفسير "الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي)
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، منبِّهًا عبادَه على موضع الدّلالة على ربوبيته ، وأنه خالق كلِّ ما دونه: إن في اعتقاب الليل النهارَ ، واعتقاب النهار الليلَ، . إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا، (34) وفيما خلق الله في السماوات من الشمس والقمر والنجوم ، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ، (لآيات)، يقول : لأدلة وحججًا وأعلامًا واضحةً ، (لقوم يتقون) الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم.
فإن قال قائل: أوَ لا دلالة فيما خلق الله في السماوات والأرض على صانعه ، إلا لمن اتقى الله؟
قيل: في ذلك الدلالة الواضحةُ على صانعه لكل من صحَّت فطرته، وبرئ من العاهات قلبه. ولم يقصد بذلك الخبرَ عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعرَ نفسه تقوى الله وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتَّقى عقاب الله ، فلم يحمله هواه على خلاف ما وضحَ له من الحق، لأن ذلك يدلُّ كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبِّرًا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة ، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
------------------------
الهوامش:
(34) وتفسير " اختلاف الليل والنهار " فيما سلف 3 : 272 ، 273 .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءَنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذِّبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضُون بها عوضًا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين (1) ، والذين هم عن آيات الله ، وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده ، في إخلاص العبادة له ، (غافلون) ، معرضون عنها لاهون، (2) لا يتأملونها تأمُّل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلَّتهم عليه، ويعرفوا بها بُطُول ما هم عليه مقيمون.
--------------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 13 : 418 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف 13 : 281 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(أولئك مأواهم النار) ، يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم ، (مأواهم ) ، مصيرهم إلى النار نار جهنم في الآخرة (3) ، (بما كانوا يكسبون) ، في الدنيا من الآثام والأجْرام، ويجْترحون من السيئات. (4)
* * *
والعرب تقول: " فلان لا يرجو فلانًا ": إذا كان لا يخافه.
ومنه قول الله جل ثناؤه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . [سورة نوح: 13]، (5) ومنه قول أبي ذؤيب:
إِذَا لَسَـعَتْهُ النَّحْـلُ لَـمْ يُـرْج لَسْـعَهَا
وَخَالَفهَـا فِـي بَيْـتِ نُـوب عَوَاسِـلِ (6)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17553- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واطمأنوا بها) ، قال: هو مثل قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا .
17554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)، قال: هو مثل قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [سورة هود: 15].
17555- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17556- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون)، قال: إذا شئتَ رأيتَ صاحب دُنْيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى.
17557- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها)، الآية كلها، قال: هؤلاء أهل الكفر. ثم قال: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
----------------------
الهوامش :
(3) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 14 : 425 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة ( كسب ) .
(5) انظر تفسير "الرجاء" فيما سلف من فهارس اللغة (كسب).
(6) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 9 : 174 .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ، إن الذين صدَّقوا الله ورسوله ، (وعملوا الصالحات)، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره (7) ، (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، يقول: يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة، كما:-
17558- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة حَسَنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صِدْقٍ! فيقول: أنا عملك! فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة سيئة وشارة سيئة (8) فيقول: ما أنت ؟ فوالله إني لأراك امرأ سَوْء! فيقول: أنا عملك! فينطلق به حتى يدخله النار.
17559- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال: يكون لهم نورًا يمشون به.
17560- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، مثله.
17561- . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17562- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله ، وقال ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال: يَمْثُل له عمله في صورة حسنة وريحٍ طيبة، يعارِض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله: (يهديهم ربهم بإيمانهم). والكافر يَمْثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويُلازُّهُ حتى يقذفه في النار. (9)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: بإيمانهم ، يهديهم ربهم لدينه. يقول: بتصديقهم هَدَاهم.
* ذكر من قال ذلك:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (10)
* * *
وقوله: (تجري من تحتهم الأنهار) ، يقول: تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم ، أنهار الجنة ، ( في جنات النعيم) ، يقول في بساتين النعيم ، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به. (11)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل : ( تجري من تحتهم الأنهار) ، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم ، إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها؟ وليس ذلك من صفة أنهار الجنة، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم، وذلك نظير قول الله: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [سورة مريم: 24]. ومعلوم أنه لم يجعل " السري" تحتها وهي عليه قاعدة ، إذ كان " السري" هو الجدول ، وإنما عني به : جعل دونها: بين يديها، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل فرعون، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، [سورة الزخرف: 51] ، بمعنى: من دوني، بين يديّ.
-------------------
الهوامش :
(7) انظر تفسير " الصالحات " فيما سلف من فهارس اللغة ( صلح ) .
(8) في المطبوعة : " وبشارة " ، والصواب ما أثبته من المخطوطة .
(9) في المطبوعة : " ويلاده" ؛ بالدال ، وأثبت في المخطوطة. " لازه يلازه ملازاة ولزازًا" قارنه ولزمه ولصق به
(10) لم يذكر شيئًا بعد قوله : " ذكر من قال ذلك " ، وفي هامش المخطوطة " كذا " ، وهو دليل على أنه سقط قديم .
(11) انظر تفسير " جنات النعيم " فيما سلف 10 : 461 ، 462 .
وأما قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، فإن معناه: دعاؤهم فيها : سبحانك اللهم، (12) كما:-
17563- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، قال: إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه (13)
قالوا: سبحانك اللهم! وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيسلم عليهم فيردّون عليه، فذلك قوله: ( وتحيتهم فيها سلام). قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربّهم، فذلك قوله: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
17564- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، يقول: ذلك قولهم فيها ، (وتحيتهم فيها سلام).
17565- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله الأشجعي قال: سمعت سفيانا يقول: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) ، قال: إذا أرادوا الشيء قالوا: " اللهم " ، فيأتيهم ما دَعَوا به.
* * *
وأما قوله: (سبحانك اللهم) ، فإن معناه: تنـزيها لك ، يا رب ، مما أضاف إليك أهل الشرك بك ، من الكذب عليك والفِرْية. (14)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17566- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي. عن غير واحدٍ عطيةُ فيهم: " سبحان الله " تنـزيهٌ لله.
17567- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " سبحان الله "، قال: إبراء الله عن السوء.
17568- حدثنا أبو كريب ، وأبو السائب ، وخلاد بن أسلم قالوا، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكوّاء سأل عليًّا رضي الله عنه عن " سبحان الله " ، قال: كلمة رضيها الله لنفسه.
17569- حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي، عن موسى بن طلحة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " سبحان الله "، فقال: تنـزيهًا لله عن السوء. (15)
17570- حدثني علي بن عيسى البزار قال ، حدثنا عبيد الله بن محمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال ، حدثني حفص بن سليمان قال ، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير " سبحان الله " ، فقال: هو تنـزيه الله من كل سوء. (16)
17571- حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال ، حدثنا سليمان بن أيوب قال : حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله ، قول " سبحان الله "؟ قال: تنـزيه الله عن السوء. (17)
* * *
، (وتحيتهم) ، يقول: وتحية بعضهم بعضًا ، (فيها سلام)، أي : سَلِمْتَ وأمِنْتَ مما ابتُلي به أهل النار. (18)
* * *
والعرب تسمي الملك " التحية " ، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
أَزُورُ بِهَــا أَبَــا قَــابُوسَ حَـتَّى
أُنِيــخَ عَــلَى تَحِيَّتِــهِ بِجُــنْدِي (19)
ومنه قول زهير بن جناب الكلبي:
مِــنْ كُــلِّ مَــا نَــالَ الفَتَــى
قَــــدْ نِلْتُــــهُ إلا التَّحِيَّـــهْ
* * *
وقوله: (وآخر دعواهم) ، يقول: وآخر دعائهم (20) ، (أن الحمد لله رب العالمين) ، يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين " ، ولذلك خففت " أن " ولم تشدّد لأنه أريد بها الحكاية.
-------------------------
الهوامش :
(12) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف 12 : 303 ، 304 .
(13) في المطبوعة : " فيشتهونه " بالفاء ، وأثبت ما في المخطوطة .
(14) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 14 ، 213 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(15) الأثر : 17567 ، 17569 - " سفيان " بن سعيد ، هو الثوري الإمام المشهور .
و " عثمان بن عبد الله بن وهب التيمي " ، مولى آل طلحة ينسب إلى جده يقال : " عثمان بن وهب " تابعي ثقة ، روى عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وأم سلمة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 155 .
و " موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي " ، تابعي ثقة ، روى عن أبيه وغيره من الصحابة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 286 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 147 .
وهو خبر مرسل ، وسيأتي موصولا في الذي يليه ، ولكنها أخبار لا يقوم إسنادها .
(16) الأثر : 17570 - " علي بن عيسى البزار " ، شيخ الطبري ، هو " علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي ، ثقة ، مضى برقم : 2168 .
و " عبيد الله بن محمد بن حفص التميمي ، العيشي " ، من ولد عائشة بنت طلحة ، ثقة ، مستقيم الحديث . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 335 .
و " عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله " ، منكر الحديث ، لا يحتج به .
مترجم في لسان الميزان 3 : 412 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 226 ، ومي زان الاعتدال 2 : 102 .
و " حفص بن سليمان الأسدي البزار " ، ضعيف الحديث ، مضى برقم : 5753 ، 11458 .
و " طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي " ، وثقه ابن معين وغيره ، وقال البخاري : " منكر الحديث " ، وقال في كتاب الضعفاء الصغير ص : 46 : " وليس بالقوي " ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 477 .
وأبوه : " يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي " ، تابعي ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 283 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 160 .
وهذا خبر هالك الإسناد ، كما رأيت .
(17) الأثر : 17571 - " محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ، المصري " ، أبو الكروس ، شيخ الطبري ، مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 34 .
و " سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة " روى نسخة عن أبيه عن آبائه عامة ، أحاديثه لا يتابع عليها ، وروى أحاديث مناكير . وذكره ابن حبان في الثقات . مترجم من التهذيب وابن أبي حاتم 2 / 1 / 101 .
وهذا خبر ضعيف الإسناد أيضًا .
(18) انظر تفسير " التحية " فيما سلف 8 : 586 - 590 .
(19) من قصيدة طويلة له ، رواها أبو علي القالي في أماليه 3 : 147 - 150 ، واللسان ( حيا ) ، مع اختلاف في الرواية .
(20) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف ص : 30 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال ، (استعجالهم بالخير) ، يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به ، (لقضي إليهم أجلهم)، يقول: لهلكوا ، وعُجِّل لهم الموت، وهو الأجل. (21)
* * *
وعني بقوله: (لقضي) ، لفرغ إليهم من أجلهم ، (22) ونُبذ إليهم، (23) كما قال أبو ذؤيب:
وَعَلَيْهِمَــا مَسْــرُودَتَانِ قَضَاهُمَــا
دَاوُدُ , أَوْ صَنَــعُ السَّــوَابِغِ تُبَّــعُ (24)
* * *
، (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا)، يقول:
فندع الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، (25) ، (في طغيانهم) ، يقول: في تمرّدهم وعتوّهم، (26) (يعمهون) يعني: يترددون. (27)
وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم ، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم ، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17572- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله: " لا باركَ الله فيه ولعنه "!
17573- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: " اللهم لا تبارك فيه والعنه "! فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
17574- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: " اللهم لا تبارك فيه والعنه " ، (لقضي إليهم أجلهم) قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته.
17575- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله: " اللهم لا تبارك فيه والعنه "! قال الله: (لقضي إليهم أجلهم) ، قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال: (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، قال يقول: لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون.
17576- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.
17577- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لقضي إليهم أجلهم) ، قال: لأهلكناهم. وقرأ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ، [سورة فاطر: 45] . قال: يهلكهم كلهم.
* * *
ونصب قوله : (استعجالهم) ، بوقوع (يعجل) عليه، كقول القائل: " قمت اليوم قيامَك " بمعنى : قمت كقيامك، وليس بمصدّرٍ من (يعجل)، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول " الكاف " ، أعني كاف التشبيه ، فيه. (28)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (لقضي إليهم أجلهم) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: ( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ )، على وجه ما لم يسمَّ فاعله ، بضم القاف من " قضي"، ورفع " الأجل ".
* * *
وقرأ عامة أهل الشأم: ( لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ ) ، بمعنى: لقضى الله إليهم أجلهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله، لأن عليه أكثر القراء.
---------------------
الهوامش :
(21) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف 13 : 290 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(22) انظر تفسير " قضى " فيما سلف 13 : 290 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك .
(23) في المطبوعة : " وتبدى لهم " ، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته .
(24) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2 : 542 .
(25) انظر تفسير " يذر " فيما سلف من فهارس اللغة ( وذر ) .
، وتفسير " الرجاء " فيما سلف ص : 26 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(26) انظر تفسير " الطغيان " فيما سلف 13 : 291 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(27) انظر تفسير " العمه " فيما سلف 13 : 291 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(28) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 458 .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد (29) ، (دعانا لجنبه) ، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه ، ( لجنبه) ، يعني مضطجعًا لجنبه. ، (أو قاعدًا أو قائمًا) بالحال التي يكون بها عند نـزول ذلك الضرّ به ، (فلما كشفنا عنه ضره) ، يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه (30) ، (مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ، يقول: استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، (31) ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان قد نـزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره: (كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون) ، يقول: كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه ، (32) استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، (33) ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17578- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (دعانا لجنبه) ، قال: مضطجعًا.
--------------------------
الهوامش :
(29) انظر تفسير " المس " فيما سلف 14 : 64 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك . ، وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضرر ) .
(30) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11 : 354 / 13 : 73 .
(31) انظر تفسير " مر " فيما سلف 13 : 304 ، 305 .
(32) انظر تفسير " التزيين " فيما سلف 14 : 245 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(33) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف 12 : 458 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الأمم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم (34) ، (لما ظلموا) ، يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه (35) ، (وجاءتهم رسلهم) من عند الله، (بالبينات)، وهي الآيات والحجج التي تُبين عن صِدْق من جاء بها. (36)
ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق ، ( وما كانوا ليؤمنوا) يقول: فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدِّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له ، ( وكذلك نجزي المجرمين) ، يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم ، أيها المشركون ، بظلمهم أنفسَهم ، وتكذيبهم رسلهم ، وردِّهم نصيحتَهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تُنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي ، أن أهلكه بسَخَطي في الدنيا ، وأوردُه النار في الآخرة.
--------------------
الهوامش :
(34) انظر تفسير " القرون " فيما سلف 11 : 263 .
(35) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ظلم ) .
(36) انظر تفسير " البينات " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره: ثم جعلناكم ، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا ، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم (37) (لننظر كيف تعملون) ، يقول: لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل، كما:-
17579- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق ربُّنا ، ما جعلنا خُلفاء إلا لينظر كيف أعمالُنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار ، والسر والعلانية.
17580- حدثني المثنى قال ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد قال ، حدثنا حماد عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: رأيتُ فيما يرى النائم كأن سببًا دُلِّي من السماء ، فانتُشِط رسول الله صلى الله عليه وسلم، (38)
ثم دُلِّي فانتُشِط أبو بكر، ثم ذُرِع الناس حول المنبر، (39)
ففضَل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر: دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها ! فلما استخلف عمر قال: يا عوف ، رؤياك! قال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنتهرني! قال: ويحك ! إني كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ : " ذُرِع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع " ، قال: أمّا إحداهن ، فإنه كائن خليفةً. وأما الثانية ، فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة ، فإنه شهيد. قال: فقال يقول الله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل.
وأما قوله: " فإني لا أخاف في الله لومة لائم " فما شاء الله.
وأما قوله: " فإني شهيد " فأنَّى لعمر الشهادة ، والمسلمون مُطِيفون به! ثم قال : إن الله على ما يشاء قدير. (40)
------------------------
الهوامش:
(37) انظر تفسير " الخلائف " فيما سلف 13 : 122 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(38) " انتشط " ( بالبناء للمجهول ) ، أي : انتزع ، جذب إلى السماء ورفع إليها ، من قولهم : " نشط الدلو من البئر " ، إذا نزعها وجذبها من البئر صعدا بغير بكرة .
(39) "ذرع الناس" ، أي : قدر ما بينهم وبين المنبر بالذراع . يقال: "ذرع الثوب " ، إذا قدره بالذراع.
(40) الأثر : 17580 - " زيد بن عوف القطعي " ، " أبو ربيعة " ، " فهد " ، متروك ، وقد مضى برقم : 5623 ، 14215 ، 14218 ، 14221 . وكان في المطبوعة هنا : " يزيد بن عوف ، أبو ربيعة ، بهذا " ، ومثله في تفسير ابن كثير 4 : 287 ، وهو اتفاق غريب على الخطأ ! .
وهذا الخبر ، رواه ابن سعد بغير هذا اللفظ ، بإسناد حسن في كتاب الطبقات الكبير 3 / 1 / 239 .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنـزلنَاه إليك ، يا محمد (1) ، (بينات)، واضحات ، على الحق دالاتٍ (2) ، (قال الذين لا يرجون لقاءنا)، يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالمعاد إلينا ، ولا يصدّقون بالبعث ، (3) لك ، (ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) ، يقول: أو غيِّره (4) ، (قل) لهم ، يا محمد ، (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) ، أي: من عندي. (5)
* * *
والتبديل الذي سألوه ، فيما ذكر، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد ، وآية الوعد وعيدًا والحرامَ حلالا والحلال حرامًا، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه ، ولا يُتَعَقَّب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلّغ ومأمور مُتّبع.
* * *
وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) ، يقول: قل لهم: ما أتبع في كل ما آمركم به أيها القوم ، وأنهاكم عنه ، إلا ما ينـزله إليّ ربي ، ويأمرني به (6) ، ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ، يقول: إني أخشى من الله إن خالفت أمره ، وغيَّرت أحكام كتابه ، وبدّلت وَحيه، فعصيته بذلك، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه، وذلك: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتَضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. (7)
-----------------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير " تلا " فيما سلف 13 : 502 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(2) انظر تفسير " بينات " فيما سلف من فهارس اللغة ( بين ) .
(3) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف ص : 34 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(4) انظر تفسير " التبديل " فيما سلف 11 : 335 / 12 : 62 ، وفهارس اللغة ( بدل ) .
(5) انظر تفسير " تلقاء " فيما سلف 12 : 466 .
(6) انظر تفسير " الوحي " فيما سلف من فهارس اللغة ( وحي ) .
(7) هذا تضمين لآية سورة الحج : 2 .