يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وسعة سلطانه، أن جميع ما في السماوات والأرض من الحيوانات الناطقة والصامتة وغيرها، [والجوامد] تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وأنها قانتة لربها، منقادة لعزته، قد ظهرت فيها آثار حكمته، ولهذا قال: { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فهذا فيه بيان عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها، في جميع أحوالها، وعموم عزته وقهره للأشياء كلها، وعموم حكمته في خلقه وأمره.
ثم أخبر عن عموم ملكه، فقال: { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي: هو الخالق لذلك، الرازق المدبر لها بقدرته { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
{ هُوَ الْأَوَّلُ } الذي ليس قبله شيء، { وَالْآخِرُ } الذي ليس بعده شيء { وَالظَّاهِرُ } الذي ليس فوقه شيء، { وَالْبَاطِنُ } الذي ليس دونه شيء. { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والسرائر والخفايا، والأمور المتقدمة والمتأخرة.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بجلاله، فوق جميع خلقه، { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } من حب وحيوان ومطر، وغير ذلك. { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وشجر وحيوان وغير ذلك، { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الملائكة والأقدار والأرزاق.
{ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة والأرواح، والأدعية والأعمال، وغير ذلك. { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } كقوله: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }
وهذه المعية، معية العلم والاطلاع، ولهذا توعد ووعد على المجازاة بالأعمال بقوله: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال، وما صدرت عنه تلك الأعمال، من بر وفجور، فمجازيكم عليها، وحافظها عليكم.
{ لَهُ ملك السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ملكا وخلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية والشرعية، الجارية على الحكمة الربانية، { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } من الأعمال والعمال، فيعرض عليه العباد، فيميز الخبيث من الطيب، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } أي: يدخل الليل على النهار، فيغشيهم الليل بظلامه، فيسكنون ويهدأون، ثم يدخل النهار على الليل، فيزول ما على الأرض من الظلام، ويضيء الكون، فيتحرك العباد، ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم، ولا يزال الله يكور الليل على النهار، والنهار على الليل، ويداول بينهما، في الزيادة والنقص، والطول والقصر، حتى تقوم بذلك الفصول، وتستقيم الأزمنة، ويحصل من المصالح ما يحصل بذلك، فتبارك الله رب العالمين، وتعالى الكريم الجواد، الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة، { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: بما يكون في صدور العالمين، فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك، ويخذل من يعلم أنه لا يصلح لهدايته
يأمر تعالى عباده بالإيمان به وبرسوله وبما جاء به، وبالنفقة في سبيله، من الأموال التي جعلها الله في أيديهم واستخلفهم عليها، لينظر كيف يعملون، ثم لما أمرهم بذلك، رغبهم وحثهم عليه بذكر ما رتب عليه من الثواب، فقال: { فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا } أي: جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله، والنفقة في سبيله، لهم أجر كبير، أعظمه [وأجله] رضا ربهم، والفوز بدار كرامته، وما فيها من النعيم المقيم، الذي أعده الله للمؤمنين والمجاهدين، ثم ذكر [السبب] الداعي لهم إلى الإيمان، وعدم المانع منه، فقال:
{ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: وما الذي يمنعكم من الإيمان، والحال أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأكرم داع دعا إلى الله يدعوكم، فهذا مما يوجب المبادرة إلى إجابة دعوته، والتلبية والإجابة للحق الذي جاء به، وقد أخذ عليكم العهد والميثاق بالإيمان إن كنتم مؤمنين، ومع ذلك، من لطفه وعنايته بكم، أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم، بل أيده بالمعجزات، ودلكم على صدق ما جاء به بالآيات البينات .
{ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: ظاهرات تدل أهل العقول على صدق كل ما جاء به وأنه حق اليقين، { لِيُخْرِجَكُمْ } بإرسال الرسول إليكم، وما أنزله الله على يده من الكتاب والحكمة.
{ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي: من ظلمات الجهل والكفر، إلى نور العلم والإيمان، وهذا من رحمته بكم ورأفته، حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }
أي: وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل الله، وهي طرق الخير كلها، ويوجب لكم أن تبخلوا، { و } الحال أنه ليس لكم شيء، بل { لله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فجميع الأموال ستنتقل من أيديكم أو تنقلون عنها، ثم يعود الملك إلى مالكه تبارك وتعالى، فاغتنموا الإنفاق ما دامت الأموال في أيديكم، وانتهزوا الفرصة، ثم ذكر تعالى تفاضل الأعمال بحسب الأحوال والحكمة الإلهية، فقال: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا } المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية، حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات التي حصل بها نشر الإسلام، واختلاط المسلمين بالكافرين، والدعوة إلى الدين من غير معارض، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجا، واعتز الإسلام عزا عظيما، وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها، كالمدينة وتوابعها، وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل، أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك، كما هو مقتضى الحكمة، ولذلك كان السابقون وفضلاء الصحابة، غالبهم أسلم قبل الفتح، ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة، وهذا يدل على فضل الصحابة [كلهم]، رضي الله عنهم، حيث شهد الله لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كلا منكم على ما يعلمه من عمله.
حث على النفقة في سبيله، لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه، وبذل الأموال في التجهز له، فقال: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وهي النفقة [الطيبة] التي تكون خالصة لوجه الله، موافقة لمرضاة الله، من مال حلال طيب، طيبة به نفسه، وهذا من كرم الله تعالى [حيث] سماه قرضا، والمال ماله، والعبد عبده، ووعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة، وهو الكريم الوهاب، وتلك المضاعفة محلها وموضعها يوم القيامة، يوم كل يتبين فقره، ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن، ولذلك قال:
يقول تعالى -مبينا لفضل الإيمان واغتباط أهله به يوم القيامة-: { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } أي: إذا كان يوم القيامة، وكورت الشمس، وخسف القمر، وصار الناس في الظلمة، ونصب الصراط على متن جهنم، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فيمشون بأيمانهم ونورهم في ذلك الموقف الهائل الصعب، كل على قدر إيمانه، ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة، فيقال: { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم، وألذها لنفوسهم، حيث حصل لهم كل مطلوب [محبوب]، ونجوا من كل شر ومرهوب
فإذا رأى المنافقون نور المؤمنين يمشون به وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين، قالوا للمؤمنين: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } أي: أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به، لننجو من العذاب، فـ { قِيلَ } لهم: { ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } أي: إن كان ذلك ممكنا، والحال أن ذلك غير ممكن، بل هو من المحالات، { فَضُرِبَ } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } أي: حائط منيع، وحصن حصين، { لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } وهو الذي يلي المؤمنين { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } وهو الذي يلي المنافقين، فينادي المنافقون المؤمنين،
فيقولون لهم تضرعا وترحما: { أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } في الدنيا نقول: { لا إله إلا الله } ونصلي ونصوم ونجاهد، ونعمل مثل عملكم؟ { قَالُوا بَلَى } كنتم معنا في الدنيا، وعملتم [في الظاهر] مثل عملنا، ولكن أعمالكم أعمال المنافقين، من غير إيمان ولا نية [صادقة] صالحة، بل { فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } أي: شككتم في خبر الله الذي لا يقبل شكا، { وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ } الباطلة، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين، وأنتم غير موقنين، { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } أي: حتى جاءكم الموت وأنتم بتلك الحال الذميمة.
{ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } وهو الشيطان، الذي زين لكم الكفر والريب، فاطمأننتم به، ووثقتم بوعده، وصدقتم خبره.
{ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فلو افتديتم بمثل الأرض ذهبا ومثله معه، لما تقبل منكم، { مَأْوَاكُمُ النَّارُ } أي: مستقركم، { هِيَ مَوْلَاكُمْ } التي تتولاكم وتضمكم إليها، { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } النار.
[قال تعالى:] { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }