مكية
( والنجم إذا هوى ) قال ابن عباس في رواية الوالبي والعوفي : يعني الثريا إذا سقطت وغابت ، وهويه مغيبه والعرب تسمي الثريا نجما .
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : " ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع " وأراد بالنجم الثريا .
وقال مجاهد : هي نجوم السماء كلها حين تغرب لفظه واحد ومعناه الجمع ، سمي الكوكب نجما لطلوعه ، وكل طالع نجم ، يقال : نجم السن والقرن والنبت : إذا طلع .
وروى عكرمة عن ابن عباس : أنه الرجوم من النجوم يعني ما ترمى به الشياطين عند استراقهم السمع .
وقال أبو حمزة الثمالي : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة . وقيل : المراد بالنجم القرآن سمي نجما لأنه نزل نجوما متفرقة في عشرين سنة ، وسمي التفريق : تنجيما ، والمفرق : منجما ، هذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، وهو قول الكلبي .
" الهوي " : النزول من أعلى إلى أسفل . وقال الأخفش : " النجم " هو النبت الذي لا ساق له ، ومنه قوله - عز وجل - : " والنجم والشجر يسجدان " ( الرحمن - 6 ) ، وهويه سقوطه على الأرض . وقال جعفر الصادق : يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - إذ نزل من السماء ليلة المعراج ، و " الهوي " : النزول ، يقال : هوى يهوي هويا [ إذا نزل ] مثل مضى يمضي مضيا .
وجواب القسم : قوله : ( ما ضل صاحبكم ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما ضل عن طريق الهدى ( وما غوى )
( وما ينطق عن الهوى ) أي : بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول القرآن من تلقاء نفسه .
( إن هو ) ما نطقه في الدين ، وقيل : القرآن ( إلا وحي يوحى ) أي : وحي من الله يوحى إليه .
( علمه شديد القوى ) جبريل ، والقوى جمع القوة .
( ذو مرة ) قوة وشدة في خلقه يعني جبريل . قال ابن عباس : ذو مرة يعني : ذو منظر حسن . وقال مقاتل : ذو خلق طويل حسن . ( فاستوى ) يعني : جبريل .
( وهو ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولون استوى هو وفلان ، وقلما يقولون : استوى وفلان نظير هذا قوله : " أئذا كنا ترابا وآباؤنا " ( النمل - 67 ) عطف الآباء على المكنى في " كنا " من غير إظهار نحن ، ومعنى الآية : استوى جبريل ومحمد عليهما السلام ليلة المعراج ( بالأفق الأعلى ) وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس ، وقيل : " فاستوى " يعني جبريل ، وهو كناية عن جبريل أيضا أي : قام في صورته التي خلقه الله ، وهو بالأفق الأعلى ، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريه نفسه على الصورة التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى ، والمراد بالأعلى جانب المشرق ، وذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب ، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغشيا عليه ، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ، وهو قوله : " ثم دنا فتدلى " وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله عز وجل: " ثم دنا فتدلى "
قوله - عز وجل - : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) اختلفوا في معناه :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشوع عن الشعبي عن مسروق قال : قلت لعائشة فأين قوله : " ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " ؟ قالت : " ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل ، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته ، فسد الأفق " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا طلق بن غنام ، حدثنا زائدة عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " ، قال : أخبرنا عبد الله - يعني ابن مسعود - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .
فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض " فتدلى " فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فكان منه " قاب قوسين أو أدنى " ، بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ، قيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو .
وقال آخرون : ثم دنا الرب - عز وجل - من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى ، فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى . وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وهذا رواية ابن سلمة عن ابن عباس ، " والتدلي " هو النزول إلى الشيء حتى يقرب منه .
وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه .
وقال الضحاك : دنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه فتدلى فأهوى للسجود ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى .
ومعنى قوله : " قاب قوسين " أي قدر قوسين ، و " القاب " و " القيب " و " القاد " و " القيد " : عبارة عن المقدار ، و " القوس " : ما يرمى به في قول الضحاك ومجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس ، فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد عليهما السلام مقدار قوسين ، قال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وهذا إشارة إلى تأكيد القرب . وأصله : أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما ، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه .
وقال عبد الله بن مسعود : " قاب قوسين " أي : قدر ذراعين ، وهو قول سعيد بن جبير وشقيق بن سلمة ، و " القوس " : الذراع يقاس بها كل شيء ، " أو أدنى " : بل أقرب .
( فأوحى ) أي : أوحى الله ( إلى عبده ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى ، قال ابن عباس في رواية عطاء ، والكلبي ، والحسن ، والربيع ، وابن زيد : معناه : أوحى جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى إليه ربه - عز وجل - .
قال سعيد بن جبير : أوحى إليه : " ألم يجدك يتيما فآوى " ( الضحى - 6 ) إلى قوله تعالى : " ورفعنا لك ذكرك " ، ( الشرح - 4 ) وقيل : أوحى إليه : إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قرأ أبو جعفر " ما كذب الفؤاد " بتشديد الذال أي : ما كذب قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه تلك الليلة ، بل صدقه وحققه ، وقرأ الآخرون بالتخفيف أي : ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي رأى بل صدقه ، يقال : كذبه إذا قال له الكذب مجازه : ما كذب الفؤاد فيما رأى ، واختلفوا في الذي رآه ، فقال قوم : رأى جبريل ، وهو قول ابن مسعود وعائشة .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص هو ابن غياث عن الشيباني عن زر عن عبد الله قال : " ما كذب الفؤاد ما رأى " قال : رأى جبريل له ستمائة جناح .
وقال آخرون : هو الله - عز وجل - . ثم اختلفوا في معنى الرؤية ، فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده ، وهو قول ابن عباس .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس : " ما كذب الفؤاد ما رأى " . " ولقد رآه نزلة أخرى " قال : رآه بفؤاده مرتين .
وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة ، قالوا : رأى محمد ربه ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ، واصطفى موسى بالكلام ، واصطفى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية .
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه ، وتحمل الآية على رؤيته جبريل عليه السلام :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال : قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت : أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب ؟ من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " ، ( الأنعام - 103 ) " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب " ( الشورى - 51 ) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " ( لقمان - 34 ) ومن حدثك أنه كتم شيئا فقد كذب ، ثم قرأت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ( المائدة - 67 ) الآية ، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن [ شقيق ] عن أبي ذر قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " .
( أفتمارونه على ما يرى ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب : " أفتمرونه " بفتح التاء [ وسكون الميم ] بلا ألف ، أي : أفتجحدونه ، تقول العرب : مريت الرجل حقه إذا جحدته ، وقرأ الآخرون : " أفتمارونه " بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به ، والمعنى : أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه .
( ولقد رآه نزلة أخرى ) يعني : رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى ، وذلك أنه رآه في صورته مرتين ، مرة في الأرض ومرة في السماء .
( عند سدرة المنتهى ) وعلى قول ابن عباس معنى : " نزلة أخرى " هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات ، فيكون لكل عرجة نزلة ، فرأى ربه في بعضها ، وروينا عنه : " أنه رأى ربه بفؤاده مرتين " وعنه : " أنه رأى بعينه " قوله : " عند سدرة المنتهى " روينا عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، قال تعالى : " عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى " ، قال : فراش من ذهب .
وروينا في حديث المعراج : " ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام فسلمت عليه ، ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة " .
" والسدرة " شجرة النبق ، وقيل لها : سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم الخلق . قال هلال بن [ يساف ] : سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر ، فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رءوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق ، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا المسوحي ، حدثنا عبيد بن يعيش ، حدثنا يونس بن بكير ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر سدرة المنتهى ، قال : " يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة عام ويستظل في الفنن منها مائة ألف راكب ، فيها فراش من ذهب ، كأن ثمرها القلال " .
وقال مقاتل : هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض ، وهي طوبى التي ذكرها الله تعالى في سورة الرعد .
( عندها جنة المأوى ) قال عطاء عن ابن عباس : جنة يأوي إليها جبريل والملائكة . وقال مقاتل والكلبي : يأوي إليها أرواح الشهداء .