يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة، المشتملة على الحكم الجليلة، على البعث والجزاء للمتقين والمكذبين، فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم الله عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأوحى إليه ما أوحى من الأحكام، وفي ذلك من المنة عليه وعلى أمته، ما هو من آيات الله العظيمة،
ونعمه التي لا يقدر العباد لها على عد ولا ثمن.
{ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ، الذي كتب الله به كل شيء، ويحتمل أن المراد به القرآن الكريم، الذي هو أفضل كتاب أنزله الله محتويا على نبأ الأولين والآخرين، وعلوم السابقين واللاحقين.
وقوله: { فِي رَقٍّ } أي: ورق { مَنْشُورٍ } أي: مكتوب مسطر، ظاهر غير خفي، لا تخفى حاله على كل عاقل بصير.
{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } وهو البيت الذي فوق السماء السابعة، المعمور مدى الأوقات بالملائكة الكرام، الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [يتعبدون فيه لربهم ثم] ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وقيل: إن البيت المعمور هو بيت الله الحرام، والمعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل وقت، وبالوفود إليه بالحج والعمرة.
كما أقسم الله به في قوله: { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } وحقيق ببيت أفضل بيوت الأرض، الذي قصده بالحج والعمرة، أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، التي لا يتم إلا بها، وهو الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، وجعله الله مثابة للناس وأمنا، أن يقسم الله به، ويبين من عظمته ما هو اللائق به وبحرمته.
{ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } أي: السماء، التي جعلها الله سقفا للمخلوقات، وبناء للأرض، تستمد منها أنوارها، ويقتدى بعلاماتها ومنارها، وينزل الله منها المطر والرحمة وأنواع الرزق.
{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } أي: المملوء ماء، قد سجره الله، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض، مع أن مقتضى الطبيعة، أن يغمر وجه الأرض، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان، ليعيش من على وجه الأرض، من أنواع الحيوان وقيل: إن المراد بالمسجور، الموقد الذي يوقد [نارا] يوم القيامة، فيصير نارا تلظى، ممتلئا على عظمته وسعته من أصناف العذاب.
هذه الأشياء التي أقسم الله بها، مما يدل على أنها من آيات الله وأدلة توحيده، وبراهين قدرته، وبعثه الأموات
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أي: لا بد أن يقع، ولا يخلف الله وعده وقيله.
{ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } يدفعه، ولا مانع يمنعه، لأن قدرة الله تعالى لا يغالبها
مغالب، ولا يفوتها هارب، ثم ذكر وصف ذلك اليوم، الذي يقع فيه العذاب.
{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا } أي: تدور السماء وتضطرب، وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون،
{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } أي: تزول عن أماكنها، وتسير كسير السحاب، وتتلون كالعهن المنفوش، وتبث بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء، وذلك كله لعظم هول يوم القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة، التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف!؟
{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } والويل: كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف.
ثم ذكر وصف المكذبين الذين استحقوا به الويل، فقال: { الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي: خوض في الباطل ولعب به. فعلومهم وبحوثهم بالعلوم الضارة المتضمنة للتكذيب بالحق، والتصديق بالباطل، وأعمالهم أعمال أهل الجهل والسفه واللعب، بخلاف ما عليه أهل التصديق والإيمان من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة.
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } أي: يوم يدفعون إليها دفعا، ويساقون إليها سوقا عنيفا، ويجرون على وجوههم،
ويقال لهم توبيخا ولوما: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } فاليوم ذوقوا عذاب الخلد الذي لا يبلغ قدره، ولا يوصف أمره.
{ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ } يحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب، كما يدل عليه سياق الآية أي: لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع: { أهذا سحر لا حقيقة له، فقد رأيتموه، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون } أي: لا بصيرة لكم ولا علم عندكم، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر، لم تقم عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين:
أما كونه سحرا، فقد ظهر لهم أنه أحق الحق، وأصدق الصدق، المخالف للسحر من جميع الوجوه، وأما كونهم لا يبصرون، فإن الأمر بخلاف ذلك، بل حجة الله قد قامت عليهم، ودعتهم الرسل إلى الإيمان بذلك، وأقامت من الأدلة والبراهين على ذلك، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجلية.
ويحتمل أن الإشارة [بقوله: { أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ } ] إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق المبين، والصراط المستقيم أي: هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر أم عدم بصيرة بكم، حتى اشتبه عليكم الأمر، وحقيقة الأمر أنه أوضح من كل شيء وأحق الحق، وأن حجة الله قامت عليهم