تفسير سورة المائدة [ وهي مدنية ] قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو معاوية شيبان ، عن ليث عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ نزلت عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة . وروى ابن مردويه من حديث صالح بن سهيل ، عن عاصم الأحول قال : حدثتني أم عمرو ، عن عمها ; أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندق عنق الراحلة من ثقلها . وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها .
تفرد به أحمد وقد روى الترمذي عن قتيبة ، عن عبد الله بن وهب ، عن حيي عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة أنزلت : سورة المائدة والفتح ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب حسن . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت : " إذا جاء نصر الله والفتح " [ سورة النصر : 1 ] .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وقال الحاكم أيضا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا بحر بن نصر قال : قرئ على عبد الله بن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم . فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
ورواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، وزاد : وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : القرآن . وراوه النسائي من حديث ابن مهدي .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مسعر حدثني معن وعوف - أو : أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] فقال : اعهد إلي . فقال : إذا سمعت الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا ) فارعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه .
وقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دحيم - حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي عن الزهري قال : إذا قال الله : ( يا أيها الذين آمنوا ) افعلوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم .
وحدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن خيثمة قال : كل شيء في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا ) فهو في التوراة : " يا أيها المساكين " .
فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي ، حدثنا معاوية - يعني : ابن هشام - عن عيسى بن راشد ، عن علي بن بذيمة ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية : ( يا أيها الذين آمنوا ) إلا أن عليا سيدها وشريفها وأميرها ، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب ، فإنه لم يعاتب في شيء منه . فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة ، وفي إسناده نظر .
قال البخاري : عيسى بن راشد هذا مجهول ، وخبره منكر . قلت : وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة - إلا أنه شيعي غال ، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل . وقوله : " ولم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا عليا " إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى ، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي ونزل قوله : ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله ) الآية [ سورة المجادلة : 13 ] وفي كون هذا عتابا نظر ; فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل ، فلم ير من أحد منهم خلافه . وقوله عن علي : " إنه لم يعاتب في شيء من القرآن " فيه نظر أيضا ; فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء عمت جميع من أشار بأخذه ، ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فعلم بهذا ، وبما تقدم ضعف هذا الأثر ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) فكتب الآيات منها حتى بلغ : ( إن الله سريع الحساب ) .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال : هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ، ويأخذ صدقاتهم . فكتب له كتابا وعهدا ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله ورسوله : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " .
قوله تعالى ( أوفوا بالعقود ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود : العهود . وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال : والعهود ما كانوا يتعاهدون عليه من الحلف وغيره . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) يعني بالعهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حد في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) إلى قوله : ( سوء الدار ) [ الرعد : 25 ] .
وقال الضحاك : ( أوفوا بالعقود ) قال : ما أحل الله وما حرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام .
وقال زيد بن أسلم : ( أوفوا بالعقود ) قال : هي ستة : عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين .
وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها : حلف الجاهلية ، وشركة المفاوضة .
وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية : ( أوفوا بالعقود ) قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، فيقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك . وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفي لفظ للبخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافيا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد .
وقوله تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) هي : الإبل والبقر ، والغنم . قاله الحسن وقتادة وغير واحد . قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب . وقد استدل ابن عمر وابن عباس ، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طريق مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله؟ فقال : " كلوه إن شئتم ; فإن ذكاته ذكاة أمه " . وقال الترمذي : حديث حسن .
[ و ] قال أبو داود : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عتاب بن بشير ، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " . تفرد به أبو داود .
وقوله : ( إلا ما يتلى عليكم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الميتة والدم ولحم الخنزير .
وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ) فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ; ولهذا قال : ( إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ) يعني : منها . فإنه حرام لا يمكن استدراكه ، وتلاحقه ; ولهذا قال تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) أي : إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .
وقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) قال بعضهم : هذا منصوب على الحال . والمراد من الأنعام : ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثنى من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام .
وقيل : المراد [ أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، كقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) أي : أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد ، أي : كما ] أحللنا الأنعام لكم في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ; ولهذا قال : ( إن الله يحكم ما يريد )
ثم قال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج .
وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن من شعائر الله .
وقيل : شعائر الله محارمه [ التي حرمها ] أي : لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ; ولهذا قال [ تعالى ] ( ولا الشهر الحرام ) يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال ، وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا [ في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ] ) الآية . [ التوبة : 36 ] .
وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت ، كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ولا الشهر الحرام ) يعني : لا تستحلوا قتالا فيه . وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري ، واختاره ابن جرير أيضا ، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، واحتجوا بقوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] قالوا : والمراد أشهر التسيير الأربعة ، [ ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ] قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره .
وقد حكى الإمام أبو جعفر [ رحمه الله ] الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة ، قال : وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان ولهذه المسألة بحث آخر ، له موضع أبسط من هذا .
[ و ] قوله : ( ولا الهدي ولا القلائد ) يعني : لا تتركوا الإهداء إلى البيت ; فإن فيه تعظيما لشعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ; ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة ، وهو وادي العقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين ، ثم أشعر هديه وقلده ، وأهل بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان ، كما قال تعالى : ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) [ الحج : 32 ] .
قال بعض السلف : إعظامها : استحسانها واستسمانها .
وقال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن
وقال مقاتل بن حيان : ( ولا القلائد ) فلا تستحلوا وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر ، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به .
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد ، وقوله : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) [ المائدة : 42 ] .
وحدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن عون قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .
وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم ، فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره . وكذا قال مطرف بن عبد الله .
وقوله : ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام ، الذي من دخله كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه ، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه .
قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان في قوله : ( يبتغون فضلا من ربهم ) يعني بذلك : التجارة .
وهذا كما تقدم في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) [ البقرة : 198 ]
وقوله : ( ورضوانا ) قال ابن عباس : يترضون الله بحجهم .
وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جريج : أن هذه الآية نزلت في الحطم بن هند البكري ، كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله عز وجل ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) .
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله ، إذا لم يكن له أمان ، وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس ; فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم . فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به ، فهذا يمنع كما قال [ تعالى ] ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمر الصديق على الحجيج - عليا وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان .
وقال [ علي ] بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ولا آمين البيت الحرام ) يعني من توجه قبل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] وقال تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) [ التوبة : 17 ] وقال [ تعالى ] : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام .
وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله : ( ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام ) قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] . .
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : ( ولا القلائد ) يعني : إن تقلد قلادة من الحرم فأمنوه ، قال : ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك ، قال الشاعر :
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم يمران الأيدي اللحاء المصفرا
وقوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) أي : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد . وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السبر : أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبا رده واجبا ، وإن كان مستحبا فمستحب ، أو مباحا فمباح . ومن قال : إنه على الوجوب ، ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال : إنه للإباحة ، يرد عليه آيات أخر ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم .
وقوله : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) ومن القراء من قرأ : " أن صدوكم " بفتح الألف من " أن " ومعناها ظاهر ، أي : لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا [ في ] حكم الله فيكم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل ، فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد ، في كل حال .
وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السموات والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل الله هذه الآية .
والشنآن هو : البغض . قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآنا ، بالتحريك ، مثل قولهم : جمزان ، ودرجان ورفلان ، من جمز ، ودرج ، ورفل . قال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن ، فيقول : شنان . قال : ولم أعلم أحدا قرأ بها ، ومنه قول الشاعر :
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وقوله : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ، وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل . والتعاون على المآثم والمحارم .
قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : مجاوزة ما حد الله في دينكم ، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال : " تحجزه تمنعه فإن ذلك نصره " .
انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه ، وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يحيى بن وثاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " .
وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [ قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " .
وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف ، كلاهما عن الأعمش به .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا عيسى بن المختار ، عن ابن أبي ليلى ، عن فضيل بن عمرو ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدال على الخير كفاعله " . ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد .
قلت : وله شاهد في الصحيح : " من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نمران بن مخمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام " .
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي : ما مات من الحيوان حتف أنفه ، من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله ، عز وجل ، ويستثني من الميتة السمك ، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها ، لما رواه مالك في موطئه والشافعي وأحمد في مسنديهما وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ، فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
وهكذا الجراد ، لما سيأتي من الحديث ، وقوله : ( والدم ) يعني [ به ] المسفوح ; لقوله : ( أو دما مسفوحا ) [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب المذحجي ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن قيس - عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : أنه سئل عن الطحال فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم . فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح .
وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم عن عائشة ، قالت : إنما نهى عن الدم السافح .
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " .
وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا .
قلت : وثلاثتهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا بشير بن سريج ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة - وهو صدي بن عجلان - قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم ، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعة من دم ، فاجتمعوا عليها يأكلونها ، قالوا : هلم يا صدي فكل . قال : قلت : ويحكم! إنما أتيتكم من عند محرم هذا عليكم ، وأنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية : ( حرمت عليكم الميتة والدم [ ولحم الخنزير ] ) الآية .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله ، وزاد بعد هذا السياق : قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ، ويأبون علي ، فقلت لهم : ويحكم ، اسقوني شربة من ماء ، فإني شديد العطش - قال : وعلي عباءتي - فقالوا : لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا . قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء ، ونمت على الرمضاء في حر شديد ، قال : فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم ير الناس أحسن منه ، وفيه شراب لم ير الناس [ شرابا ] ألذ منه ، فأمكنني منها فشربتها ، فحيث فرغت من شرابي استيقظت ، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة .
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن حمشاذ عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري ، حدثنا صدقة بن هرمز عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قد ذكر نحوه وزاد بعد قوله : " بعد تيك الشربة " : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم ، فلم تمجعوه بمذقة ، فأتوني بمذقة ، فقلت : لا حاجة لي فيها ، إن الله أطعمني وسقاني ، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم .
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق :
وإياك والميتات لا تقربنها ولا تأخذن عظما حديدا فتفصدا
أي : لا تفعل كما يفعل الجاهلية ، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئا محددا من عظم ونحوه ، فيفصد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان ، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ; ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة ، ثم قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تأتينه ولا تعبد الأصنام والله فاعبدا
وقوله : ( ولحم الخنزير ) يعني : إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : ( فإنه رجس أو فسقا ) يعنون قوله تعالى : ( إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس ) [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير ، حتى يعم جميع أجزائه ، وهذا بعيد من حيث اللغة ، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه ، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد ، وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه " فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ، وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس؟ فقال : " لا هو حرام " .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان : أنه قال لهرقل ملك الروم : " نهانا عن الميتة والدم " .
وقوله : ( وما أهل لغير الله به ) أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ; لأن الله أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم ، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك ، من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه ، إما عمدا أو نسيانا ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : نزل آدم بتحريم أربع : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط ، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض ، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم ، فلما بعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [ عليه السلام ] وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه . وهذا أثر غريب .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا ربعي بن عبد الله قال : سمعت الجارود بن أبي سبرة - قال : هو جدي - قال : كان رجل من بني رياح يقال له : ابن وثيل ، وكان شاعرا ، نافر - غالبا - أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة ، على أن يعقر هذا مائة من إبله ، وهذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء ، فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف ، فجعلا يكسفان عراقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم - قال : وعلي بالكوفة - قال : فخرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي : يا أيها الناس ، لا تأكلوا من لحومها فإنما أهل بها لغير الله .
هذا أثر غريب ، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف عن أبي ريحانة ، عن ابن عباس قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب .
ثم قال أبو داود : محمد بن جعفر - هو غندر - أوقفه على ابن عباس . تفرد به أبو داود
وقال أبو داود أيضا : حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ، حدثنا أبي ، حدثنا جرير بن حازم ، عن الزبير بن خريت قال : سمعت عكرمة يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل .
ثم قال أبو داود : أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس . تفرد به أيضا .
وقوله : ( والمنخنقة ) وهي التي تموت بالخنق إما قصدا أو اتفاقا ، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به ، فهي حرام .
وأما ) الموقوذة ) فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخشب حتى توقذ بها فتموت .
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها .
وفي الصحيح : أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب . قال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله " .
ففرق بين ما أصابه بالسهم ، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله ، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله ، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا ، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، على قولين ، هما قولان للشافعي رحمه الله :
أحدهما : [ أنه ] لا يحل ، كما في السهم ، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ .
والثاني : أنه يحل ; لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ، ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكرناه ; لأنه قد دخل في العموم . وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب هاهنا . .
فصل :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى ، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، أو صدمه ، هل يحل أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أن ذلك حلال ; لعموم قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عدي بن حاتم . وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي رحمه الله ، وصححه بعض المتأخرين [ منهم ] كالنووي والرافعي .
قلت : وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر ، فإنه قال في كلا الموضعين : " يحتمل معنيين " . ثم وجه كلا منهما ، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه ، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به . والقول بذلك - أعني الحل - نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة ، من رواية الحسن بن زياد ، عنه ، ولم يذكر غير ذلك ، وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر . وهذا غريب جدا ، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم ، إلا أنه من تصرفه ، رحمه الله ورضي عنه .
والقول الثاني : أن ذلك لا يحل ، وهو أحد القولين عن الشافعي رحمه الله ، واختاره المزني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا ، والله أعلم . ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة ، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه وهذا القول أشبه بالصواب ، والله أعلم ، لأنه أجرى عن القواعد الأصولية ، وأمس بالأصول الشرعية . واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خديج ، قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب ؟ قال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . الحديث بتمامه ، وهو في الصحيحين .
وهذا وإن كان واردا على سبب خاص ، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع ، كما سئل عليه السلام عن البتع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " أفيقول فقيه : إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة ، فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره ; لأنه عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم .
إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غمه بثقله ، ليس مما أنهر دمه ، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث . فإن قيل : هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء ; لأنهم إنما سألوا عن الآلة التي يذكى بها ، ولم يسألوا عن الشيء الذي يذكى ; ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر ، حيث قال : " ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة " . والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه ، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة ، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم .
فالجواب عن هذا : بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا ، حيث يقول : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . ولم يقل : " فاذبحوا به " فهذا يؤخذ منه الحكمان معا ، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها ، وحكم المذكى ، وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرا . هذا مسلك .
والمسلك الثاني : طريقة المزني وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعرضه فلا تأكل ، وإن خزق فكل . والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخزق ; لأنهما اشتركا في الموجب ، وهو الصيد ، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب ، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل ، بل هذا أولى . وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي ، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة ، فلا بد لهم من جواب عن هذا . وله أن يقول : هذا قتله الكلب بثقله ، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعرضه والجامع أن كلا منهما آلة للصيد ، وقد مات بثقله فيهما . ولا يعارض ذلك بعموم الآية ; لأن القياس مقدم على العموم ، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور ، وهذا مسلك حسن أيضا .
مسلك آخر ، وهو : أن قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره ، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو : إما أن يكون نطيحا أو في حكمه ، أو منخنقا أو في حكمه ، وأيا ما كان فيجب تقديم [ حكم ] هذه الآية على تلك لوجوه :
أحدها : أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد ، حيث يقول لعدي بن حاتم : " وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله " . ولم نعلم أحدا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية ، فقال : إن الوقيذ معتبر حالة الصيد ، والنطيح ليس معتبرا ، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به ، وهو محظور عند كثير من العلماء .
الثاني : أن تلك الآية : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) [ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع ، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول ، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق ، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ . .
المسلك الآخر : أن هذا الصيد - والحالة هذه - في حكم الميتة سواء ; لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات ، فلا تحل قياسا على الميتة .
المسلك الآخر : أن آية التحريم ، أعني قوله : ( حرمت عليكم الميتة ) إلى آخرها محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص ، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة ، أعني قوله : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات [ وما علمتم من الجوارح مكلبين ] ) [ المائدة : 4 ] فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك ، وشاهد ذلك قصة السهم ، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية ، وهو ما إذا خزفه المعراض فيكون حلالا ; لأنه من الطيبات ، وما دخل في حكم تلك الآية ، آية التحريم ، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل ; لأنه وقيذ ، فيكون أحد أفراد آية التحريم ، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء ، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل . وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا .
فإن قيل : فلم لا فصل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال ، وإن لم يجرحه فهو حرام ؟
فالجواب : أن ذلك نادر ; لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر ، وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ; فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا ، والله أعلم ; ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد ، فقال : " إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب ، حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس . وبه قال الحسن والشعبي والنخعي . وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه . وروى ابن جرير في تفسيره عن علي وسعد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعد وسلمان وأبو هريرة وابن عمر ، وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة . وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه .
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي ، عن أبي ثعلبة الخشني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " .
ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ; أن أعرابيا يقال له : أبو ثعلبة قال : يا رسول الله ، فذكر نحوه .
وقال محمد بن جرير في تفسيره : حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا عبد العزيز بن موسى - هو اللاحوني - حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس - وهو معاوية بن قرة - عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي .
ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان موقوفا وأما الجمهور فقدموا حديث " عدي " على ذلك ، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره . وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ ، فأكل منه لجوعه ونحوه ، فإنه لا بأس بذلك ; لأنه - والحالة هذه ; لا يخشى أنه أمسك على نفسه ، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة ، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه ، والله أعلم .
فأما الجوارح من الطير فنص الشافعي على أنها كالكلاب ، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ، ولا يحرم عند الآخرين . واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه ، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد ، فيعفى عن ذلك ، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير . وقال الشيخ أبو علي في " الإفصاح " : إذا قلنا : يحرم ما أكل منه الكلب ، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان ، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب ، لنص الشافعي رحمه الله على التسوية بينهما ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما ) المتردية ) فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك ، فلا تحل .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( المتردية ) التي تسقط من جبل . وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر .
وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر .
وأما ) النطيحة ) فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها ، فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها .
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، أي : منطوحة . وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث ، فيقولون : كف خضيب ، وعين كحيل ، ولا يقولون : كف خضيبة ، ولا عين كحيلة : وأما هذه فقال بعض النحاة : إنما استعمل فيها تاء التأنيث ; لأنها أجريت مجرى الأسماء ، كما في قولهم : طريقة طويلة . وقال بعضهم : إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة ، بخلاف : عين كحيل ، وكف خضيب ; لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام .
وقوله : ( وما أكل السبع ) أي : ما عدا عليها أسد ، أو فهد ، أو نمر ، أو ذئب ، أو كلب ، فأكل بعضها فماتت بذلك ، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها ، فلا تحل بالإجماع . وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين .
وقوله : ( إلا ما ذكيتم ) عائد على ما يمكن عوده عليه ، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة ، وفيه حياة مستقرة ، وذلك إنما يعود على قوله : ( والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع )
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( إلا ما ذكيتم ) يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه ، فهو ذكي . وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : ( وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ) قال : إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها ، أو طرفت بعينها فكل .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا هشيم وعباد قالا : حدثنا حجاج عن حصين عن الشعبي عن الحارث عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها .
وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد : أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل . وقال ابن وهب : سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها ؟ فقال مالك : لا أرى أن تذكي أي شيء يذكى منها .
وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش ، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت ، فيؤكل ؟ قال إن كان قد بلغ السحرة ، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأسا . قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال : لا يعجبني ، هذا لا يعيش منه . قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء ؟ فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل .
هذا مذهب مالك رحمه الله ، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها ، فيحتاج إلى دليل مخصص للآية ، والله أعلم .
وفي الصحيحين : عن رافع بن خديج أنه قال : قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدا ، وليس معنا مدى ، أفنذبح بالقصب ؟ فقال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ، ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة " .
وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [ عن أبي هريرة ] مرفوعا ، وفيه نظر ، وروي عن عمر موقوفا ، وهو أصح " ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق " .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية حماد بن سلمة ، عن أبي العشراء الدارمي ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال : " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك .
وهو حديث صحيح ولكنه محمول على ما [ لم ] يقدر على ذبحه في الحلق واللبة .
وقوله : ( وما ذبح على النصب ) قال مجاهد وابن جريج كانت النصب حجارة حول الكعبة قال ابن جريج : وهي ثلاثمائة وستون نصبا ، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها ، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب .
وكذا ذكره غير واحد ، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله . وينبغي أن يحمل هذا على هذا ; لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله .
وقوله تعالى : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي : حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام : واحدها : زلم ، وقد تفتح الزاي ، فيقال : زلم ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ، وهي عبارة عن قداح ثلاثة ، على أحدها مكتوب : " أفعل " وعلى الآخر : " لا تفعل " والثالث " غفل ليس عليه شيء . ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد : " أمرني ربي " وعلى الآخر : " نهاني ربي " . والثالث غفل ليس عليه شيء ، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله ، أو الناهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد [ الاستقسام ]
والاستقسام : مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام . هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا الحجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء عن ابن عباس : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) قال : والأزلام : قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور .
وكذا روي عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومقاتل بن حيان .
وقال ابن عباس : هي القداح كانوا يستقسمون بها الأمور . وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له : هبل ، وكان داخل الكعبة ، منصوب على بئر فيها ، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه ، كان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه ، مما أشكل عليهم ، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه .
وثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام ، فقال : " قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا "
وفي الصحيح : أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال : فعصيت الأزلام وأتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك .
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد ، عن رقبة عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا " .
وقال مجاهد في قوله : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) قال : هي سهام العرب ، وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها .
وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار فيه نظر ، اللهم إلا أن يقال : إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة ، وفي القمار أخرى ، والله أعلم . فإن الله سبحانه [ وتعالى ] قد فرق بين هذه وبين القمار وهو الميسر ، فقال في آخر السورة : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم ] منتهون ) [ الآيتان : 90 ، 91 ] وهكذا قال هاهنا : ( وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ) أي : تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك ، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ، ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن ، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول : " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ; فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاقدره لي ويسره لي وبارك لي فيه ، اللهم إن كنت تعلمه شرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفني عنه ، واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به " . لفظ أحمد .
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي .
قوله : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم . .
وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان . وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن بالتحريش بينهم " .
ويحتمل أن يكون المراد : أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين ، بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ; ولهذا قال تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ، ولا يخافوا أحدا إلا الله ، فقال : ( فلا تخشوهم واخشون ) أي : لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة .
وقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) هذه أكبر نعم الله عز وجل ، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم ، صلوات الله وسلامه عليه ; ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف ، كما قال تعالى : ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ) [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي ، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم ; ولهذا قال [ تعالى ] ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) أي : فارضوه أنتم لأنفسكم ، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وهو الإسلام ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا .
وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . قالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي .
قال ابن جريج وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما .
رواهما ابن جرير ، ثم قال : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن فضيل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك؟ " قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذ أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : " صدقت " .
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا ، فطوبى للغرباء " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية؟ قال قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت عشية عرفة في يوم جمعة .
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به . ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قيس بن مسلم ، به ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا . فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت يوم عرفة ، وأنا والله بعرفة - قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا ( اليوم أكملت لكم دينكم ) الآية .
وشك سفيان رحمه الله ، إن كان في الرواية فهو تورع ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة ، فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به ، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها ، والله أعلم ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة ، أخبرنا عبادة بن نسي ، أخبرنا أميرنا إسحاق - قال أبو جعفر بن جرير : هو إسحاق بن خرشة - عن قبيصة - يعني ابن ذؤيب - قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية ، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه . فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت فيه ، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا قبيصة حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار - هو مولى بني هاشم - أن ابن عباس قرأ : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا . فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ويوم جمعة .
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا يحيى بن الحماني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سلمان ، عن أبي عمر البزار ، عن ابن الحنفية ، عن علي [ رضي الله عنه ] قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم عشية عرفة : ( اليوم أكملت لكم دينكم )
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس السكوني : أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة .
وروى ابن مردويه ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عمر بن موسى بن وجيه ، عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : نزلت هذه الآية : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف .
فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، [ ونبئ يوم الاثنين ] وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ورفع الذكر يوم الاثنين ، فإنه أثر غريب وإسناده ضعيف .
وقد رواه الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين ، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين .
هذا لفظ أحمد ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فالله أعلم . ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم ، فاشتبه على الراوي ، والله أعلم .
[ و ] قال ابن جرير : وقد قيل : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، ثم روي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) يقول : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال : وقد قيل : إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع . ثم رواه من طريق أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس .
قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العيدي ، عن أبي سعيد الخدري ; أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلي : " من كنت مولاه فعلي مولاه " . ثم رواه عن أبي هريرة وفيه : أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع .
ولا يصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية : أنها أنزلت يوم عرفة ، وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس وسمرة بن جندب ، رضي الله عنهم ، وأرسله [ عامر ] الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري ، رحمه الله .
وقوله : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناول ذلك ، والله غفور رحيم له ; لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي المسند وصحيح ابن حبان ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته " لفظ ابن حبان . وفي لفظ لأحمد من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " .
ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على مهجته التلف ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، و [ قد ] يكون مباحا بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع ، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام . وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير ، أو صيدا وهو محرم : هل يتناول الميتة ، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء ، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين ، هما قولان للشافعي رحمه الله . وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تجتفئوا بقلا فشأنكم بها " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين . وكذا رواه ابن جرير ، عن عبد الأعلى بن واصل ، عن محمد بن القاسم الأسدي ، عن الأوزاعي به ، لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ، عن أبي واقد ، به ومنهم من رواه عن الأوزاعي عن حسان عن مرثد - أو أبي مرثد - عن أبي واقد ، به ورواه ابن جرير عن هناد بن السري ، عن عيسى بن يونس ، عن حسان عن رجل قد سمي له ، فذكره . ورواه أيضا عن هناد عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي عن حسان مرسلا .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عون قال : وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه ، فكان فيه : " ويجزى من الاضطرار غبوق أو صبوح " .
حدثنا أبو كريب ، حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي حدثنا الحسن أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [ إلى ] متى يحل [ لي ] الحرام؟ قال : فقال : " إلى متى يروى أهلك من اللبن ، أو تجيء ميرتهم " .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عن جدته ; أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تحل لك الطيبات ، وتحرم عليك الخبائث إلا أن تفتقر إلى طعام لا يحل لك ، فتأكل منه حتى تستغني عنه " . فقال الرجل : وما فقري الذي يحل لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كنت ترجو نتاجا ، فتبلغ بلحوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غنى ، تطلبه ، فتبلغ من ذلك شيئا ، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه " . فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال [ النبي ] صلى الله عليه وسلم : " إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام ، وأما مالك فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام " .
ومعنى قوله : " ما لم تصطبحوا " : يعني به : الغداء ، " وما لم تغتبقوا " : يعني به : العشاء ، " أو تختفئوا بقلا فشأنكم بها " [ أي ] فكلوا منها . وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف - يعني قوله : " أو تختفئوا [ بقلا ] على أربعة أوجه : " تختفئوا " بالهمزة ، " وتحتفيوا " بتخفيف الياء والحاء ، " وتحتفوا " بتشديد [ الفاء ] وتحتفوا " بالحاء وبالتخفيف ، ويحتمل الهمز ، كذا ذكره في التفسير .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري ; أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
ما يحل لنا من الميتة؟ قال : " ما طعامكم؟ " قلنا : نغتبق ونصطبح . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة ، وقدح عشية . قال : " ذاك - وأبي - الجوع " . وأحل لهم الميتة على هذه الحال .
تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد حدثنا سماك عن جابر بن سمرة ، أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقة لي ضلت ، فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها ، فأبى ، فنفقت ، فقالت له امرأته : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها فنأكله . فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : " هل عندك غنى يغنيك ؟ " قال : لا . قال : " فكلوها " . قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك .
تفرد به وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع ، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها ، والله أعلم .
وقوله : ( غير متجانف لإثم ) أي : [ غير ] متعاط لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) [ الآية : 173 ] .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ; لأن الرخص لا تنال بالمعاصي ، والله أعلم .
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها ، إما في بدنه ، أو في دينه ، أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة ، كما قال : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) [ الأنعام : 119 ] قال بعدها : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) كما [ قال ] في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم : أنه ( يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) [ الآية : 157 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) قال سعيد [ بن جبير ] يعني : الذبائح الحلال الطيبة لهم . وقال مقاتل [ بن حيان ] [ في قوله : ( قل أحل لكم الطيبات ) ] فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال : ليس هو من الطيبات .
رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس . فقال : ليس هو من الطيبات .
وقوله تعالى : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) أي : أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق ، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح ، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك ، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ، وممن قال ذلك : علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) وهن الكلاب المعلمة ، والبازي ، وكل طير يعلم للصيد . والجوارح : يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها .
رواه ابن أبى حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة وطاوس ومجاهد ومكحول ويحيى بن أبي كثير ، نحو ذلك . وروي عن الحسن أنه قال : الباز والصقر من الجوارح . وروي عن علي بن الحسين مثله . ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله ، وقرأ قول الله [ عز وجل ] ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك .
ونقله ابن جرير عن الضحاك والسدي ، ثم قال : حدثنا هناد حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن جريج ، عن نافع عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البزاة وغيرها من الطير ، فما أدركت فهو لك ، وإلا فلا تطعمه .
قلت : والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب ; لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب ، فلا فرق . وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد حدثنا عيسى بن يونس ، عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ، فقال : " ما أمسك عليك فكل " .
واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود ; لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه ; لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود " فقلت : ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال : " الكلب الأسود شيطان " وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال : " ما بالهم وبال الكلاب ، اقتلوا منها كل أسود بهيم " .
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن : جوارح ، من الجرح ، وهو : الكسب . كما تقول العرب : فلان جرح أهله خيرا ، أي : كسبهم خيرا . ويقولون : فلان لا جارح له ، أي : لا كاسب له ، وقال الله تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) [ الأنعام : 60 ] أي : ما كسبتم من خير وشر .
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني موسى بن عبيدة ، حدثني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال : فسكت ، فأنزل الله : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسل الرجل كلبه وسمى ، فأمسك عليه ، فليأكل ما لم يأكل " .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن زيد بن الحباب بإسناده ، عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه ، فأذن له فقال : قد أذنا لك يا رسول الله . قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت ، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله عز وجل : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين )
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح به . وقال : صحيح ولم يخرجاه .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب ، حتى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلت : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) [ الآية ]
ورواه الحاكم من طريق سماك عن عكرمة وهكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزول هذه الآية : إنه في قتل الكلاب .
وقوله تعالى : ( مكلبين ) يحتمل أن يكون حالا من الضمير في ( علمتم ) فيكون حالا من الفاعل ، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو ( الجوارح ) أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد ، وذلك أن تقتنصه [ الجوارح ] بمخالبها أو أظفارها ، فيستدل بذلك - والحالة هذه - على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل ، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ; ولهذا قال : ( تعلمونهن مما علمكم الله ) وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا أشلاه استشلى وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه ; ولهذا قال تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) فمتى كان الجارحة معلما وأمسك على صاحبه ، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد ، وإن قتله بالإجماع .
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله . فقال : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك " . قلت : وإن قتلن؟ قال : " وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " . قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ ، فلا تأكله " . وفي لفظ لهما : " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته " . وفي رواية لهما : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " فهذا دليل للجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث . وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا .
ذكر الآثار بذلك :
قال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا وكيع عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : قال سلمان الفارسي : كل وإن أكل ثلثيه - يعني الصيد - إذا أكل منه الكلب . وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وعمر بن عامر ، عن قتادة . وكذا رواه محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان .
ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى ، عن يزيد عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم أن سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه .
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي ; أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كل ، وإن لم يبق منه إلا حذية - يعني : [ إلا ] بضعة .
ورواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن بكير بن الأشج عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : كل وإن أكل ثلثيه .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود عن عامر عن أبي هريرة قال : لو أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر قال : سمعت عبيد الله وحدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر - عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل .
وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد ، عن نافع .
فهذه الآثار ثابتة عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر . وهو محكي عن علي وابن عباس . واختلف فيه عن عطاء والحسن البصري . وهو قول الزهري وربيعة ومالك . وإليه ذهب الشافعي في القديم ، وأومأ إليه في الجديد .
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا ، فقال ابن جرير : حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني ، حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه ، وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي " .
ثم قال ابن جرير : وفي إسناد هذا الحديث نظر وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع .
وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح ، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر ، فقال أبو داود : حدثنا محمد بن منهال الضرير ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ; أن أعرابيا - يقال له : أبو ثعلبة - قال : يا رسول الله ، إن لي كلابا مكلبة ، فأفتني في صيدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك " . فقال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : " نعم " . قال : وإن أكل منه؟ قال : " نعم ، وإن أكل منه " . قال : يا رسول الله ، أفتني في قوسي . فقال : " كل ما ردت عليك قوسك " قال : ذكيا وغير ذكي؟ قال : " وإن تغيب عنك ما لم يصل ، أو تجد فيه أثر غير سهمك " . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : " اغسلها وكل فيها " . .
هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي . وكذا رواه أبو داود من طريق بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك "
وهذان إسنادان جيدان ، وقد روى الثوري عن سماك بن حرب ، عن عدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كان من كلب ضار أمسك عليك ، فكل " . قلت : وإن أكل؟ قال : " نعم " .
وروى عبد الملك بن حبيب : حدثنا أسد بن موسى ، عن ابن أبي زائدة ، عن الشعبي عن عدي مثله .
فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب . وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، كما تقدم عمن حكيناه عنهم ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم . وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل من الصيد لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني ، وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين صحيح . وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه " النهاية " أن لو فصل مفصل هذا التفصيل ، وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم ، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة ، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عدي وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم ; لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن حماد عن إبراهيم عن ابن عباس ; أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يعد ، وإن تعلم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب ، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل .
وكذا قال إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان .
وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فما يحل لنا منها؟ قال : " يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه " ثم قال : " ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه ، فكل مما أمسك عليك " . قلت : وإن قتل؟ قال : " وإن قتل ، ما لم يأكل " . قلت : يا رسول الله ، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها؟ قال : فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك " . قال : قلت : إنا قوم نرمي ، فما يحل لنا؟ قال : " ما ذكرت اسم الله عليه وخزقت فكل " .
فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل ، ولم يشترط ذلك في البزاة ، فدل على التفرقة بينهما في الحكم ، والله أعلم .
وقوله : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) أي : عند الإرسال ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك " . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا : " إذا أرسلت كلبك ، فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله " ; ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كأحمد [ بن حنبل ] - في المشهور عنه - التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث ، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور ، أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال ، كما قال السدي وغير واحد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( واذكروا اسم الله عليه ) يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : باسم الله ، وإن نسيت فلا حرج .
وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال : " سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك " . وفي صحيح البخاري : عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا - حديث عهدهم بكفر - بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا ؟ فقال : " سموا الله أنتم وكلوا "
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هشام عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره " .
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، به وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة فإنه لم يسمع منها هذا الحديث ، بدليل ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الوهاب ، أخبرنا هشام - يعني ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير ; أن امرأة منهم - يقال لها : أم كلثوم - حدثته ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه ، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين ، فقال : " أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره " .
[ و ] رواه أحمد أيضا وأبو داود والترمذي والنسائي من غير وجه ، عن هشام الدستوائي به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا جابر بن صبح حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي ، وصحبته إلى واسط ، فكان يسمي في أول طعامه وفي آخر لقمة يقول : بسم الله أوله وآخره .
فقلت له : إنك تسمي في أول ما تأكل ، أرأيت قولك في آخر ما تأكل : باسم الله أوله وآخره؟ فقال : أخبرك عن ذلك ، إن جدي أمية بن مخشى - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل ، والنبي ينظر ، فلم يسم ، حتى كان في آخر طعامه لقمة ، فقال : باسم الله أوله وآخره . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى ، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه " .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري ووثقه ابن معين والنسائي وقال أبو الفتح الأزدي : لا تقوم به الحجة .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب - من أصحاب ابن مسعود - عن حذيفة قال : كنا إذا حضرنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طعام ، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيضع يده ، وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية ، كأنما تدفع ، فذهبت تضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، وجاء أعرابي كأنما يدفع ، فذهب يضع يده في الطعام ، فأخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها ، فأخذت بيدها ، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده ، إن يده في يدي مع يدهما ، يعني الشيطان . وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث الأعمش به .
حديث آخر : روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طريق ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت ، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم المبيت والعشاء " . لفظ أبي داود .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وحشي بن حرب بن وحشي بن حرب عن أبيه ، عن جده ; أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نأكل وما نشبع؟ قال : " فلعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه " .
ورواه أبو داود ، وابن ماجه ، من طريق الوليد بن مسلم .
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث ، وما أحله لهم من الطيبات ، قال بعده : ( اليوم أحل لكم الطيبات )
ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى فقال : ( وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم ) قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان : يعني ذبائحهم .
وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ؛ أن ذبائحهم حلال للمسلمين ; لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم ، تعالى وتقدس . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال : دلي بجراب من شحم يوم خيبر . [ قال ] فاحتضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدا ، والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم .
فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة ، وهذا ظاهر . واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم ، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم . فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله ; لقوله تعالى : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) قالوا : وهذا ليس من طعامهم . واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث ، وفي ذلك نظر ; لأنه قضية عين ، ويحتمل أنه كان شحما يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما ، والله أعلم .
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح : أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية ، وقد سموا ذراعها ، وكان يعجبه الذراع ، فتناوله فنهش منه نهشة ، فأخبره الذراع أنه مسموم ، فلفظه وأثر ذلك السم في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره ، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور ; فمات ، فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب فقتلت ببشر بن البراء .
ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا .
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة ، يعني : ودكا زنخا
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مزيد ، أخبرنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان بن المنذر ، عن مكحول قال : أنزل الله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) [ الأنعام : 121 ] ثم نسخها الرب ، عز وجل ، ورحم المسلمين ، فقال : ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب .
وفي هذا الذي قاله مكحول - رحمه الله - نظر ، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ; لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم ، وهم متعبدون بذلك ; ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم ، لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم ، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة ، بل يأكلون الميتة ، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ومن تمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء ، على أحد قولي العلماء ، ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم ، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور .
[ و ] قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب عن محمد بن عبيدة قال : قال علي : لا تأكلوا ذبائح بني تغلب ; لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر .
وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف .
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب .
وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ! يعني في هذه المسألة ، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ ، وإنما الذي في صحيح البخاري : عن عبد الرحمن بن عوف ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) فدل بمفهومه - مفهوم المخالفة - على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل
وقوله : ( وطعامكم حل لهم ) أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم ، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها . والأول أظهر في المعنى ، أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم . وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة ، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول حين مات ودفنه فيه ، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه ، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك ، فأما الحديث الذي فيه : " لا تصحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي " فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم .
وقوله : ( والمحصنات من المؤمنات ) أي : وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ، وذكر هذا توطئة لما بعده ، وهو قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) فقيل : أراد بالمحصنات : الحرائر دون الإماء ، حكاه ابن جرير عن مجاهد . وإنما قال مجاهد : المحصنات : الحرائر ، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه . وهو قول الجمهور هاهنا ، وهو الأشبه ; لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل : " حشفا وسوء كيلة " . والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات : العفيفات عن الزنا ، كما قال في الآية الأخرى : ( محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ) [ النساء : 25 ] .
ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) هل يعم كل كتابية عفيفة ، سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ، ممن فسر المحصنة بالعفيفة . وقيل : المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات ، وهو مذهب الشافعي . وقيل : المراد بذلك : الذميات دون الحربيات ; لقوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ] ) [ التوبة : 29 ]
وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ، ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) الآية [ البقرة : 221 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب ، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المزني - حدثنا إسماعيل بن سميع ، عن أبي مالك الغفاري ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) فنكح الناس [ من ] نساء أهل الكتاب .
وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا ، أخذا بهذه الآية الكريمة : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) فجعلوا هذه مخصصة للآية التي في البقرة : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) [ الآية : 221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها ، وإلا فلا معارضة بينها وبينها ; لأن أهل الكتاب قد يفصل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ، كما قال تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) [ البينة : 1 ] وكقوله ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا ) الآية [ آل عمران : 20 ] ، وقوله : ( إذا آتيتموهن أجورهن ) أي : مهورهن ، أي : كما هن محصنات عفائف ، فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس . وقد أفتى جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينه وبينها ، وترد عليه ما بذل لها من المهر . رواه ابن جرير عنهم .
وقوله : ( محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) فكما شرط الإحصان في النساء ، وهي العفة عن الزنا ، كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ; ولهذا قال : ( غير مسافحين ) وهم : الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ، ( ولا متخذي أخدان ) أي : ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن ، كما تقدم في سورة النساء سواء ; ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف ، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا ; لهذه الآية وللحديث الآخر : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله . "
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] لقد هممت ألا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة . فقال له أبي بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب .
وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى [ إن شاء الله تعالى ] عند قوله : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) [ النور : 3 ] ; ولهذا قال تعالى هاهنا : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين )
قال كثيرون من السلف : قوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة ) معناه وأنتم محدثون .
وقال آخرون : إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، وكلاهما قريب .
وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك ، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب ، وفي حق المتطهر على سبيل الندب والاستحباب . وقد قيل : إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله ، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟ قال : " إني عمدا فعلته يا عمر .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ووقع في سنن ابن ماجه ، عن سفيان عن محارب بن دثار - بدل علقمة بن مرثد - كلاهما عن سليمان بن بريدة به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي ، حدثنا الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين . فقلت : أبا عبد الله ، شيء تصنعه برأيك؟ قال : بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه ، فأنا أصنعه ، كما رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يصنع .
وكذا رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن توبة عن زياد البكائي به وقال أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال : قلت له : أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر ، عمن هو؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب ; أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر بن الغسيل حدثها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر ، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء ، إلا من حدث . فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ، كان يفعله حتى مات .
وكذا رواه أبو داود ، عن محمد بن عوف الحمصي ، عن أحمد بن خالد الذهبي ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ثم قال أبو داود : ورواه إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق فقال : عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد .
وأيا ما كان فهو إسناد صحيح ، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان ، فزال محذور التدليس . لكن قال الحافظ ابن عساكر : رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، به ، والله أعلم . وفي فعل ابن عمر هذا ، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك ، كما هو مذهب الجمهور . .
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا أزهر عن ابن عون ، عن ابن سيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت مسعود بن علي الشيباني ، سمعت عكرمة يقول : كان علي رضي الله عنه ، يتوضأ عند كل صلاة ، ويقرأ هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) الآية .
وحدثنا ابن المثنى ، حدثني وهب بن جرير ، أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة قال : رأيت عليا صلى الظهر ، ثم قعد للناس في الرحبة ، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه ، وقال هذا وضوء من لم يحدث .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم ; أن عليا اكتال من حب ، فتوضأ وضوءا فيه تجوز فقال : هذا وضوء من لم يحدث " . وهذه طرق جيدة عن علي [ رضي الله عنه ] يقوي بعضها بعضا .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تجوز ، خفيفا ، فقال هذا وضوء من لم يحدث . وهذا إسناد صحيح .
وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة .
وأما ما رواه أبو داود الطيالسي ، عن أبي هلال ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء . فهو غريب عن سعيد بن المسيب ، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد ، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر الأنصاري ، سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث .
وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عمرو بن عامر به .
وقال ابن جرير : حدثني أبو سعيد البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن هريم عن عبد الرحمن بن زياد - هو الإفريقي - عن أبي غطيف ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " .
ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس ، عن الإفريقي عن أبي غطيف ، عن ابن عمر ، فذكره ، وفيه قصة .
وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الإفريقي به نحوه وقال الترمذي : وهو إسناد ضعيف .
قال ابن جرير : وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة ، دون غيرها من الأعمال ; وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ .
حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان عن جابر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ، ونسلم عليه فلا يرد علينا ، حتى نزلت آية الرخصة : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) الآية .
ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم عن أبي كريب ، به نحوه . وهو حديث غريب جدا وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي ، ضعفوه .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عباس ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء ، فقدم إليه طعام ، فقالوا : ألا نأتيك بوضوء . فقال : " إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة .
وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي عن زياد بن أيوب ، عن إسماعيل - وهو ابن علية - به وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن الحويرث ، عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء ، ثم إنه رجع فأتي بطعام ، فقيل : يا رسول الله ، ألا تتوضأ؟ فقال : " لم؟ أأصلي فأتوضأ؟ " .
وقوله : ( فاغسلوا وجوهكم ) قد استدل طائفة من العلماء بقوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) على وجوب النية في الوضوء ; لأن تقدير الكلام : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها " ، كما تقول العرب : " إذا رأيت الأمير فقم " أي : له . وقد ثبت في الصحيحين حديث : " الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " . ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه ; لما ورد في الحديث من طرق جيدة ، عن جماعة من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " .
ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم ; لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " .
وحد الوجه عند الفقهاء : ما بين منابت شعر الرأس - ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم - إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، وفي النزعتين والتحذيف خلاف ، هل هما من الرأس أو الوجه ، وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان ، أحدهما : أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة . وروي في حديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته ، فقال : " اكشفها ، فإن اللحية من الوجه " وقال مجاهد : هي من الوجه ، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته : طلع وجهه .
ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كثة ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل عن عامر بن شقيق بن جمرة ، عن أبي وائل قال : رأيت عثمان توضأ - فذكر الحديث - قال : وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت .
رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرزاق وقال الترمذي : حسن صحيح ، وحسنه البخاري .
وقال أبو داود : حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا أبو المليح ، حدثنا الوليد بن زوران عن أنس بن مالك ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه ، يخلل به لحيته ، وقال : " هكذا أمرني به ربي عز وجل .
تفرد به أبو داود وقد روي هذا من غير وجه عن أنس . قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عن علي وغيره ، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي ، ثم عن النخعي وجماعة من التابعين .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها : أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق ، فاختلف الأئمة في ذلك : هل هما واجبان في الوضوء والغسل ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ، رحمه الله؟ أو مستحبان فيهما ، كما هو مذهب الشافعي ومالك؟ لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة ، عن رفاعة بن رافع الزرقي ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته : " توضأ كما أمرك الله " أو يجبان في الغسل دون الوضوء ، كما هو مذهب أبي حنيفة ؟ أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ فليستنثر " وفي رواية : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر " والانتثار : هو المبالغة في الاستنشاق .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ; أنه توضأ فغسل وجهه ، ثم أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا ، يعني أضافها إلى يده الأخرى ، فغسل بهما وجهه . ثم أخذ غرفة من ماء ، فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثم مسح رأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء ، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله اليسرى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني يتوضأ .
ورواه البخاري عن محمد بن عبد الرحيم ، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ، به .
وقوله : ( وأيديكم إلى المرافق ) أي : مع المرافق ، كما قال تعالى : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ) [ النساء : 2 ]
وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي ، من طريق القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جده ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه . ولكن القاسم هذا متروك الحديث ، وجده ضعيف ، والله أعلم .
ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد ليغسله مع ذراعيه ; لما روى البخاري ومسلم من حديث نعيم المجمر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " .
وفي صحيح مسلم : عن قتيبة عن خلف بن خليفة ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " .
وقوله : ( وامسحوا برءوسكم ) اختلفوا في هذه " الباء " هل هي للإلصاق ، وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر على قولين . ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة ، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى ، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يديه ، فغسل يديه مرتين مرتين ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه .
وفي حديث عبد خير ، عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا ، وروى أبو داود ، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب ، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .
ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس ، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن .
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس ، وهو مقدار الناصية .
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ، لا يتقدر ذلك بحد ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه .
واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة ، قال : تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه ، فلما قضى حاجته قال : " هل معك ماء؟ " فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة ، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته ، وعلى العمامة وعلى خفيه . . . وذكر باقي الحديث ، وهو في صحيح مسلم وغيره .
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد : إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة ، ونحن نقول بذلك ، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة ، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين ، فهذا أولى ، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة ، والله أعلم .
ثم اختلفوا في أنه : هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا ، كما هو المشهور من مذهب الشافعي أو إنما يستحب مسحة واحدة ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه ، على قولين . فقال عبد الرزاق : عن معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن حمران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ، ثم مضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : " من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ، عن عثمان في صفة الوضوء : ومسح برأسه مرة واحدة ، وكذا من رواية عبد خير ، عن علي مثله .
واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، عن عثمان رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : توضأ ثلاثا ثلاثا .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا الضحاك بن مخلد ، حدثنا عبد الرحمن بن وردان ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ . فذكر نحوه ، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق ، قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثا ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا ، وقال : " من توضأ دون هذا كفاه .
تفرد به أبو داود ثم قال : وأحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة .
وقوله : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) قرئ : ( وأرجلكم ) بالنصب عطفا على ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا وهيب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس ; أنه قرأها : ( وأرجلكم ) يقول : رجعت إلى الغسل .
وروي عن عبد الله بن مسعود وعروة وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد وإبراهيم والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان والزهري وإبراهيم التيمي ، نحو ذلك .
وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل ، كما قاله السلف ، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب كما هو مذهب الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب ، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك ; لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء ، و " الواو " لا تدل على الترتيب . وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا ، فمنهم من قال : الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة ; لأنه مأمور به بفاء التعقيب ، وهي مقتضية للترتيب ، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده ، بل القائل اثنان ، أحدهما : يوجب الترتيب ، كما هو واقع في الآية . والآخر يقول : لا يجب الترتيب مطلقا ، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء ، فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع ، حيث لا فارق . ومنهم من قال : لا نسلم أن " الواو " لا تدل على الترتيب ، بل هي دالة - كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء . ثم نقول - بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي - : هي دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب ، والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت ، خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) [ البقرة : 158 ] ثم قال : " ابدأ بما بدأ الله به " لفظ مسلم ولفظ النسائي : " ابدءوا بما بدأ الله به " . وهذا لفظ أمر ، وإسناده صحيح ، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به ، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا ، والله أعلم .
ومنهم من قال : لما ذكر تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب ، فقطع النظير عن النظير ، وأدخل الممسوح بين المغسولين ، دل ذلك على إرادة الترتيب .
ومنهم من قال : لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ، ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " قالوا : فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب ، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب ، ولا قائل به ، فوجب ما ذكره .
وأما القراءة الأخرى ، وهي قراءة من قرأ : ( وأرجلكم ) بالخفض . فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين ; لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس . وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح ، فقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا حميد قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما ، وظهورهما عراقيبهما ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله [ تعالى ] ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما إسناد صحيح إليه .
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغسل . وهذا أيضا إسناد صحيح .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا محمد بن قيس الخراساني ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : الوضوء غسلتان ومسحتان .
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا أبو معمر المنقري ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : ( وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) قال : هو المسح . ثم قال : وروي عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر ، [ و ] محمد بن علي والحسن - في إحدى الروايات - وجابر بن زيد ومجاهد - في إحدى الروايات - نحوه .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح . ثم قال الشعبي : ألا ترى أن " التيمم " أن يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟
وحدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد أخبرنا إسماعيل قلت لعامر : إن ناسا يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين؟ فقال : نزل جبريل بالمسح .
فهذه آثار غريبة جدا ، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف ، لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين . وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام ، كما في قول العرب : " جحر ضب خرب " ، وكقوله تعالى : ( عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ) [ الإنسان : 21 ] وهذا سائغ ذائع ، في لغة العرب شائع . ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان ، قاله أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله . ومنهم من قال : هي دالة على مسح الرجلين ، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف ، كما وردت به السنة . وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا ، لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها .
ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي ، حيث قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد الملك بن ميسرة ، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب ، أنه صلى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتي بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب فضله وهو قائم ، ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما ، وإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صنع ما صنعت . وقال : " هذا وضوء من لم يحدث " .
رواه البخاري في الصحيح ، عن آدم ببعض معناه .
ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف ، فقد ضل وأضل . وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث ، وأوجب مسحهما للآية ، فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء ; لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما ، فحكاه من حكاه كذلك ; ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل ، سواء تقدمه أو تأخر عليه ; لاندراجه فيه ، وإنما أراد الرجل ما ذكرته ، والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين ، في قوله : ( وأرجلكم ) خفضا على المسح وهو الدلك ونصبا على الغسل ، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه .
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه :
قد تقدم في حديث أميري المؤمنين عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرة ، وإما مرتين ، أو ثلاثا ، على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ، ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
وفي الصحيحين ، من رواية أبي عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ، صلاة العصر ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " .
وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " .
وروى الليث بن سعد ، عن حيوة بن شريح ، عن عقبة بن مسلم ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " . رواه البيهقي والحاكم وهذا إسناد صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق : أنه سمع سعيد بن أبي كرب - أو شعيب بن أبي كرب - قال : سمعت جابر بن عبد الله - وهو على جمل - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للعراقيب من النار " .
وحدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل رجل منا مثل الدرهم لم يغسله ، فقال : " ويل للعقب من النار " .
ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الأحوص عن أبي إسحاق ، عن سعيد به نحوه ، وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن سعيد بن أبي كرب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله . ثم قال :
حدثنا علي بن مسلم ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا حفص عن الأعمش عن أبي سفيان ، عن جابر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضئون ، لم يصب أعقابهم الماء ، فقال : " ويل للعراقيب من النار " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن معيقيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويل للأعقاب من النار " . تفرد به أحمد .
وقال ابن جرير : حدثني علي بن عبد الأعلى ، حدثنا المحاربي عن مطرح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار " . قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع ، إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما " .
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا حسين عن زائدة عن ليث حدثني عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة - أو عن أخي أبي أمامة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قوما يتوضئون وفي عقب أحدهم - أو : كعب أحدهم - مثل موضع الدرهم - أو : موضع الظفر - لم يمسه الماء ، فقال : " ويل للأعقاب من النار " . قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعاد وضوءه " .
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة ، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه ; لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل ، بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف ، وهكذا وجه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله .
وقد روى مسلم في صحيحه ، من طريق أبي الزبير ، عن جابر عن عمر بن الخطاب ; أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ارجع فأحسن وضوءك " .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا جرير بن حازم : أنه سمع قتادة بن دعامة قال : حدثنا أنس بن مالك ; أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ ، وترك على قدمه مثل موضع الظفر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارجع فأحسن وضوءك " .
وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف وابن ماجه ، عن حرملة بن يحيى ، كلاهما عن ابن وهب به وهذا إسناد جيد ، رجاله كلهم ثقات ، لكن قال أبو داود : [ و ] ليس هذا الحديث بمعروف ، لم يروه إلا ابن وهب .
وحدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد أخبرنا يونس وحميد عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . بمعنى حديث قتادة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بقية حدثني بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء .
ورواه أبو داود من حديث بقية وزاد : " والصلاة " . وهذا إسناد جيد قوي صحيح ، والله أعلم .
وفي حديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم : أنه خلل بين أصابعه . وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير ، عن عاصم بن لقيط بن صبرة ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن الوضوء : فقال : " أسبغ الوضوء ، وخلل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن المقري حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال : قال أبو أمامة : حدثنا عمرو بن عبسة قال : قلت : يا نبي الله ، أخبرني عن الوضوء . قال : " ما منكم من أحد يقرب وضوءه ، ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . قال أبو أمامة : يا عمرو ، انظر ما تقول ، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ فقال عمرو بن عبسة يا أبا أمامة ، لقد كبرت سني ، ورق عظمي ، واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله ، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ و ] لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ، لقد سمعته [ منه ] سبع مرات أو أكثر من ذلك .
وهذا إسناد صحيح ، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر ، وفيه : " ثم يغسل قدميه كما أمره الله " . فدل على أن القرآن يأمر بالغسل .
وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي ، عن الحارث عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم .
ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير ، عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما . إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها ، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين . وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه ، وهو من روايته ، عن الأعمش عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما ، ثم دعا بماء فتوضأ ، ومسح على نعليه وهو حديث صحيح . وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه .
قلت : ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان ، وعليهما نعلان .
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى عن شعبة ، حدثني يعلى عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ، ثم قام إلى الصلاة . وقد رواه أبو داود عن مسدد وعباد بن موسى كلاهما ، عن هشيم عن يعلى بن عطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال ، وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه .
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث ; إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه .
ولما كان القرآن آمرا بغسل الرجلين - كما في قراءة النصب ، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليها - توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين ، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن لم يصح إسناده ، ثم الثابت عنه خلافه ، وليس كما زعموه ، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة ، عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد عن جرير بن عبد الله البجلي قال : أنا أسلمت بعد نزول المائدة ، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت . تفرد به أحمد .
وفي الصحيحين ، من حديث الأعمش عن إبراهيم عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا؟ فقال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه . قال الأعمش : قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث ; لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة . لفظ مسلم .
وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا كما هو مقرر في كتاب " الأحكام الكبير " ، وما يحتاج إلى ذكره هناك ، من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه ، كما هو مبسوط في موضعه . وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند ، بل بجهل وضلال ، مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . كما ثبت في الصحيحين عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة ، وهم يستبيحونها . وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين ، مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كله ، وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ، ولله الحمد .
وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين ، فعندهم أنهما في ظهر القدم ، فعندهم في كل رجل كعب ، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم . قال الربيع : قال الشافعي : لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم . هذا لفظه . فعند الأئمة ، رحمهم الله ، [ أن ] في كل قدم كعبين كما هو المعروف عند الناس ، وكما دلت عليه السنة ، ففي الصحيحين من طريق حمران عن عثمان ; أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ، واليسرى مثل ذلك .
وروى البخاري تعليقا مجزوما به وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه ، من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي ، عن النعمان بن بشير قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال : " أقيموا صفوفكم - ثلاثا - والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم " . قال : فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه ، ومنكبه بمنكبه . لفظ ابن خزيمة .
فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق ، حتى يحاذي كعب الآخر ، فدل ذلك على ما ذكرناه ، من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن موسى ، أخبرنا شريك عن يحيى بن عبد الله بن الحارث التيمي - يعني الجابر - قال : نظرت في قتلى أصحاب زيد فوجدت الكعب فوق ظهر القدم ، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم ، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه .
وقوله : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) كل ذلك قد تقدم الكلام عليه في تفسير آية النساء ، فلا حاجة بنا إلى إعادته ; لئلا يطول الكلام . وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك ، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة ، فقال :
حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه ، عن أبيه ، عن عائشة : سقطت قلادة لي بالبيداء ، ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثنى رأسه في حجري راقدا ، أقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة ، وقال : حبست الناس في قلادة ، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) هذه الآية ، فقال أسيد بن الحضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ، ما أنتم إلا بركة لهم .
وقوله : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي : فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر ، بل أباح التيمم عند المرض ، وعند فقد الماء ، توسعة عليكم ورحمة بكم ، وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه ، كما تقدم بيانه ، وكما هو مقرر في كتاب " الأحكام الكبير " .
وقوله : ( ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) أي : لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة ، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء ، بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة ، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن ، عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل ، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس ، فأدركت من قوله : " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة " . قال : قلت : ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها . فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه ، فقال : إني قد رأيتك جئت آنفا قال : " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو : فيسبغ - الوضوء ، يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء " . لفظ مسلم .
وقال مالك : عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأ العبد المسلم - أو : المؤمن - فغسل وجهه ، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو : مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء - أو : مع آخر قطر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو : مع آخر قطر الماء - حتى يخرج نقيا من الذنوب " .
رواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن مالك به .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد ، عن كعب بن مرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه - أو : ذراعيه - إلا خرجت خطاياه منهما ، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه ، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه " .
هذا لفظه . وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة عن منصور عن سالم عن مرة بن كعب ، أو كعب بن مرة السلمي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإذا توضأ العبد فغسل يديه ، خرجت خطاياه من بين يديه ، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه ، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه " . قال شعبة : ولم يذكر مسح الرأس . وهذا إسناد صحيح .
وروى ابن جرير من طريق شمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة ، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه " .
وروى مسلم في صحيحه ، من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور عن أبي مالك الأشعري ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " .
وفي صحيح مسلم من رواية سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صدقة من غلول ، ولا صلاة بغير طهور " .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن قتادة سمعت أبا المليح الهذلي يحدث عن أبيه ، قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ، فسمعته يقول : " إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور ، ولا صدقة من غلول " .
وكذا رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، من حديث شعبة .
يقول تعالى مذكرا عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم ، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم ، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته ، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه ، فقال [ تعالى ] ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عند إسلامهم ، كما قالوا : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله " ، وقال تعالى : ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ) [ الحديد : 8 ] وقيل : هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وقيل : هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم : ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) [ الأعراف : 172 ] قاله مجاهد ومقاتل بن حيان . والقول الأول أظهر ، وهو المحكي عن ابن عباس والسدي . واختاره ابن جرير .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله ) تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال .
ثم أعلمهم أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر والسرائر من الأسرار والخواطر ، فقال : ( إن الله عليم بذات الصدور )
وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ) أي : كونوا قوامين بالحق لله ، عز وجل ، لا لأجل الناس والسمعة ، وكونوا ( شهداء بالقسط ) أي : بالعدل لا بالجور . وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نحلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاءه ليشهده على صدقتي فقال : " أكل ولدك نحلت مثله؟ " قال : لا . قال : " اتقوا الله ، واعدلوا في أولادكم " . وقال : " إني لا أشهد على جور " . قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة .
وقوله : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ) أي : لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم ، بل استعملوا العدل في كل أحد ، صديقا كان أو عدوا ; ولهذا قال : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي : عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه . ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه ، كما في نظائره من القرآن وغيره ، كما في قوله : ( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ) [ النور : 28 ]
وقوله : ( هو أقرب للتقوى ) من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء ، كما في قوله [ تعالى ] ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) [ الفرقان : 24 ] وكقول بعض الصحابيات لعمر : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) أي : وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ; ولهذا قال بعده :
( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ) أي : لذنوبهم ( وأجر عظيم ) وهو : الجنة التي هي من رحمته على عباده ، لا ينالونها بأعمالهم ، بل برحمة منه وفضل ، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم ، وهو تعالى الذي جعلها أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه ، فالكل منه وله ، فله الحمد والمنة .
ثم قال : ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) وهذا من عدله تعالى ، وحكمته وحكمه الذي لا يجور فيه ، بل هو الحكم العدل الحكيم القدير .
وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ) قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري ذكره عن أبي سلمة ، عن جابر ; أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها ، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسله ، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعك مني؟ قال : " الله " ! قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا : من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الله " ! قال : فشام الأعرابي السيف ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي ، وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه - وقال معمر : وكان قتادة يذكر نحو هذا ، وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي ، وتأول : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) الآية .
وقصة هذا الأعرابي - وهو غورث بن الحارث - ثابتة في الصحيح .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ) وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم فأوحى الله تعالى إليه بشأنهم ، فلم يأت الطعام ، وأمر أصحابه فلم يأتوه رواه ابن أبي حاتم .
وقال أبو مالك : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، حين أرادوا أن يغدروا بمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه في دار كعب بن الأشرف . رواه ابن أبي حاتم .
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد : أنها نزلت في شأن بني النضير ، حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى ، لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ، ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك ، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه ، فأطلع الله رسوله على ما تمالؤوا عليه ، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه ، فأنزل الله [ تعالى ] في ذلك : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم فحاصرهم ، حتى أنزلهم فأجلاهم .
وقوله تعالى : ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) يعني : من توكل على الله كفاه الله ما أهمه ، وحفظه من شر الناس وعصمه .
لما أمر [ الله ] تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه ، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل ، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة ، فيما هداهم له من الحق والهدى ، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين : اليهود والنصارى فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنا منه لهم ، وطردا عن بابه وجنابه ، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق ، وهو العلم النافع والعمل الصالح ، فقال تعالى : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) يعني : عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع ، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه .
وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام ، لقتال الجبابرة ، فأمر بأن يقيم النقباء من كل سبط نقيب - قال محمد بن إسحاق : فكان من سبط روبيل " شامون بن زكور ، ومن سبط شمعون : " شافاط بن حري " ، ومن سبط يهوذا : " كالب بن يوفنا " ، ومن سبط أبين : " فيخائيل بن يوسف " ، ومن سبط يوسف وهو سبط أفرايم : " يوشع بن نون " ، ومن سبط بنيامين : " فلطمى بن رفون " ، ومن سبط زبلون جدي بن سودى " ، ومن سبط يوسف وهو منشا بن يوسف : " جدي بن سوسى " ، ومن سبط دان : " حملائيل بن جمل " ، ومن سبط أسير : " ساطور بن ملكيل " ، ومن سبط نفتالي نحى بن وفسى " ، ومن سبط جاد : " جولايل بن ميكي " .
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحاق ، والله أعلم ، قال فيها : فعلى بني روبيل : " الصوني بن سادون " ، وعلى بني شمعون : " شموال بن صورشكي " ، وعلى بني يهوذا : " يحشون بن عمبياذاب وعلى بني يساخر : " شال بن صاعون " ، وعلى بني زبلون : " الياب بن حالوب ، وعلى بني يوسف إفرايم : " منشا بن عمنهود " ، وعلى بني منشا : " حمليائيل بن يرصون " ، وعلى بني بنيامين : " أبيدن بن جدعون " ، وعلى بني دان : " جعيذر بن عميشذي " ، وعلى بني أسير : " نحايل بن عجران " ، وعلى بني حاز : " السيف بن دعواييل " ، وعلى بني نفتالي : " أجزع بن عمينان " .
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة ، كان فيهم اثنا عشر نقيبا ، ثلاثة من الأوس وهم : أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر - ويقال بدله : أبو الهيثم بن التيهان - رضي الله عنهم ، وتسعة من الخزرج وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حرام والمنذر بن عمرو بن خنيس ، رضي الله عنهم . وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له ، كما أورده ابن إسحاق ، رحمه الله .
والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، وهم الذين ولوا المبايعة والمعاقدة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي ، فسألت أبي : ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال : " كلهم من قريش " .
وهذا لفظ مسلم ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحا يقيم الحق ويعدل فيهم ، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم ، بل قد وجد منهم أربعة على نسق ، وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة ، وبعض بني العباس . ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة ، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره : أنه يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، واسم أبيه اسم أبيه ، فيملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورا وظلما ، وليس هذا بالمنتظر الذي يتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب " سامراء " . فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية ، بل هو من هوس العقول السخيفة ، وتوهم الخيالات الضعيفة ، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة [ الاثني عشر ] الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم . وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام ، وأن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيما ، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديثابن مسعود وجابر بن سمرة وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر ، فيتشيع كثير منهم جهلا وسفها ، لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : ( وقال الله إني معكم ) أي : بحفظي وكلاءتي ونصري ( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي ) أي : صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي ( وعزرتموهم ) أي : نصرتموهم وآزرتموهم على الحق ( وأقرضتم الله قرضا حسنا ) وهو : الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته ( لأكفرن عنكم سيئاتكم ) أي : ذنوبكم أمحوها وأسترها ، ولا أؤاخذكم بها ( ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) أي : أدفع عنكم المحذور ، وأحصل لكم المقصود .
وقوله : ( فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) أي : فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده ، وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه ، فقد أخطأ الطريق الحق ، وعدل عن الهدى إلى الضلال .
ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده ، فقال : ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ) أي : فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم ، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ، ( وجعلنا قلوبهم قاسية ) أي : فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها ، ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) أي : فسدت فهومهم ، وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل ، عياذا بالله من ذلك ، ( ونسوا حظا مما ذكروا به ) أي : وتركوا العمل به رغبة عنه .
قال الحسن : تركوا عرى دينهم ووظائف الله التي لا يقبل العمل إلا بها . وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة ، فلا قلوب سليمة ، ولا فطر مستقيمة ، ولا أعمال قويمة .
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) يعني : مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك .
وقال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي ، صلى الله عليه وسلم .
( فاعف عنهم واصفح ) وهذا هو عين النصر والظفر ، كما قال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم ; ولهذا قال تعالى : ( إن الله يحب المحسنين ) يعني به : الصفح عمن أساء إليك .
وقال قتادة : هذه الآية ( فاعف عنهم واصفح ) منسوخة بقوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ] ) [ التوبة : 29 ]
وقوله : ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ) أي : ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام ، وليسوا كذلك ، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره ، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ، أي : ففعلوا كما فعل اليهود خالفوا المواثيق ونقضوا العهود ; ولهذا قال : ( فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) أي : فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة . وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين ، يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ; فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها ، فالملكية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون ، وكذلك النسطورية والأريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
ثم قال تعالى : ( وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله ، وما نسبوه إلى الرب ، عز وجل ، وتعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا ، من جعلهم له صاحبة وولدا ، تعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .
قول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة : أنه قد أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض ، عربهم وعجمهم ، أميهم وكتابيهم ، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ، فقال تعالى : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) أي : يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه ، وافتروا على الله فيه ، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، قوله : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) فكان الرجم مما أخفوه .
ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال : ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين )