تفسير
حم
1
القول في تأويل قوله تعالى : حم (1)
قال أبو جعفر: قد تقدم القول منا فيما مضى قبلُ في معنى ( حم ) والقول في هذا الموضع كالقول في ذلك.
وقوله: ( تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يقول تعالى ذكره: هذا القرآن تنـزيل من عند الرحمن الرحيم نـزله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) يقول: كتاب بينت آياته.
كما حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السدي, قوله: ( فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) قال: بينت آياته.
وقوله: ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) يقول تعالى ذكره: فُصلت آياته هكذا.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب القرآن, فقال بعض نحويّي البصرة قوله: ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ ) الكتاب خبر لمبتدأ أخبر أن التنـزيل كتاب, ثم قال: ( فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) شغل الفعل بالآيات حتى صارت بمنـزلة الفاعل, فنصب القرآن.
وقال: ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) على أنه صفة, وإن شئت جعلت نصبه على المدح كأنه حين ذكره أقبل في مدحته, فقال: ذكرنا قرآنا عربيا بشيرا ونذيرا, وذكرناه قرآنا عربيا, وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر. وقال بعض نحويّي الكوفة: نصب قرآنا على الفعل: أي فصلت آياته كذلك. قال: وقد يكون النصب فيه على القطع, لأن الكلام تامّ عند قوله "آيَاتُهُ". قال: ولو كان رفعا على أنه من نعت الكتاب كان صوابا, كما قال في موضع آخر: كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ وقال: وكذلك قوله: ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) فيه ما في ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ).
وقوله: ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) يقول: فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم يعلمون اللسان العربي.
بشيرا لهم يبشرهم إن هم آمنوا به, وعملوا بما أنـزل فيه من حدود الله وفرائضه بالجنة,( وَنَذِيرًا ) يقول ومنذرا من كذب به ولم يعمل بما فيه بأمر الله في عاجل الدنيا, وخلود الأبد في نار جهنم في آجل الآخرة.
وقوله: ( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ) يقول تعالى ذكره: فاستكبر عن الإصغاء له وتدبر ما فيه من حجج الله, وأعرض عنه أكثر هؤلاء القوم الذين أنـزل هذا القرآن بشيرا لهم ونذيرا, وهم قوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. يقول: فهم لا يصغون له فيسمعوه إعراضا عنه واستكبارا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون المعرضون عن آيات الله من مشركي قريش إذ دعاهم محمد نبيّ الله إلى الإقرار بتوحيد الله وتصديق ما في هذا القرآن من أمر الله ونهيه, وسائر ما أنـزل فيه ( قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) يقول: في أغطية ( مِمَّا تَدْعُونَا ) يا محمد ( إِلَيْهِ ) من توحيد الله, وتصديقك فيما جئتنا به, لا نفقه ما تقول ( وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) وهو الثقل, لا نسمع ما تدعونا إليه استثقالا لما يدعو إليه وكراهة له. وقد مضى البيان قبل عن معاني هذه الأحرف بشواهده, وذكر ما قال أهل التأويل فيه, فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
وقد: حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) قال: عليها أغطية كالجَعْبة للنَّبْل.
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) قال: عليها أغطية ( وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) قال: صمم.
وقوله: ( وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) يقولون: ومن بيننا وبينك يا محمد ساتر لا نجتمع من أجله نحن وأنت, فيرى بعضنا بعضا, وذلك الحجاب هو اختلافهم في الدين, لأن دينهم كان عبادة الأوثان, ودين محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عبادة الله وحده لا شريك له, فذلك هو الحجاب الذي زعموا أنه بينهم وبين نبيّ الله, وذلك هو خلاف بعضهم بعضا في الدين.
وأدخلت " من " في قوله ( وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) والمعنى: وبيننا وبينكَ حِجابٌ, توكيدا للكلام.
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله من قومك: أيها القوم, ما أنا إلا بشر من بني آدم مثلكم في الجنس والصورة والهيئة لست بمَلك ( يُوحَى إِلَيَّ ) يوحي الله إلى أن لا معبود لكم تصلح عبادته إلا معبود واحد.( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ )يقول: فاستقيموا إليه بالطاعة, ووجهوا إليه وجوهكم بالرغبة والعبادة دون الآلهة والأوثان.
يقول: وسلوه العفو لكم عن ذنوبكم التي سلفت منكم بالتوبة من شرككم, يتب عليكم ويغفر لكم.
وقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) يقول تعالى ذكره: وصديد أهل النار, وما يسيل منهم للمدعين لله شريكا العابدين الأوثان دونه الذين لا يؤتون الزكاة.
اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم: معناه: الذين لا يعطون الله الطاعة التي تطهرهم, وتزكي أبدانهم, ولا يوحدونه; وذلك قول يذكر عن ابن عباس.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: ثنا حفص, قال: ثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة, قوله: ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ): الذين لا يقولون لا إله إلا الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين لا يقرّون بزكاة أموالهم التي فرضها الله فيها, ولا يعطونها أهلها. وقد ذكرنا أيضا قائلي ذلك قبلُ.
وقد حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) قال: لا يقرّون بها ولا يؤمنون بها. وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام, فمن قطعها نجا, ومن تخلف عنها هلك; وقد كان أهل الردّة بعد نبيّ الله قالوا: أما الصلاة فنصلِّي, وأما الزكاة فوالله لا تغصب أموالنا; قال: فقال أبو بكر: والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه; والله لو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه.
حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قال: لو زَكَّوا وهم مشركون لم ينفعهم.
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدّون زكاة أموالهم; وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة, وأن في قوله: ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) دليلا على أن ذلك كذلك, لأن الكفار الذين عنوا بهذه الآية كانوا لا يشهدون أن لا إله إلا الله, فلو كان قوله: ( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) مرادا به الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله لم يكن لقوله: ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) معنى, لأنه معلوم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله لا يؤمن بالآخرة, وفي اتباع الله قوله: ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) قوله ( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) ما ينبئ عن أن الزكاة في هذا الموضع معنيّ بها زكاة الأموال.
وقوله: ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) يقول: وهم بقيام الساعة, وبعث الله خلقه أحياء من قبورهم, من بعد بلائهم وفنائهم منكرون.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله, وعملوا بما أمرهم الله به ورسوله, وانتهوا عما نهاهم عنه, وذلك هو الصالحات من الأعمال.( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )يقول: لمن فعل ذلك أجر غير منقوص عما وعدهم أن يأجرهم عليه.
وقد اختلف في تأويل ذلك أهل التأويل, وقد بيَّناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد:
حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال بعضهم: غير منقوص. وقال بعضهم: غير ممنون عليهم.
حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) يقول: غير منقوص.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, قوله: ( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال: محسوب.
وقوله: ( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) وذلك يوم الأحد ويوم الاثنين; وبذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقالته العلماء, وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما مضى قبل, ونذكر بعض ما لم نذكره قبل إن شاء الله.
* ذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الأخبار بذلك:
حدثنا هناد بن السري, قال: ثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي سعيد البقال, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال هناد: قرأت سائر الحديث على أبي بكر " أن اليهود أتت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فسألته عن خلق السموات والأرض, قال: " خَلَقَ اللهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَد وَالاثْنَيْنِ, وَخَلَقَ الجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَما فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ, وَخَلَقَ يَوْمَ الأرْبَعاء الشَّجَرَ وَالمَاءَ وَالمَدَائِنَ وَالعُمْرَانَ والخَرَابَ, فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ, ثُمَّ قال: أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ, وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادًا, ذلك رَبُّ العَالَمِينَ, وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبَارَكَ فِيها, وَقَدَّرَ فِيها أقْوَاتَهَا في أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً للسَّائِلِينَ لِمَنْ سأل. قالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السَّمَاءَ, وَخَلَقَ يَوْمَ الجُمْعَةِ النُّجُومَ والشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالمَلائِكَةَ إلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ الآجَالِ حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ, وفِي الثَّانِيَةِ ألْقَى الآفَةَ على كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ, وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الجَنَّةَ, وَأَمَرَ إبْلِيسَ بالسُّجُودِ لَهُ, وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ" قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: " ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ", قالوا: قد أصبت لو أتممت, قالوا: ثم استراح; فغضب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم غضبا شديدا, فنـزل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ .
حدثنا تميم بن المنتصر, قال: أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن غالب بن غلاب, عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس, قال: إن الله خلق يوما واحدا فسماه الأحد, ثم خلق ثانيا فسماه الإثنين, ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء, ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء, ثم خلق خامسا فسماه الخميس; قال: فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين, وخلق الجبال يوم الثلاثاء, فذلك قول الناس: هو يوم ثقيل, وخلق مواضع الأنهار والأشجار يوم الأربعاء, وخلق الطير والوحوش والهوامّ والسباع يوم الخميس, وخلق الإنسان يوم الجمعة, ففرغ من خلق كلّ شيء يوم الجمعة.
حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) في الأحد والإثنين.
وقد قيل غير ذلك.
وذلك ما حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي قالا ثنا حجاج, عن ابن جريج, قال أخبرني إسماعيل بن أمية, عن أيوب بن خالد, عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة, عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيدي فقال: " خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ, وَخَلَقَ فِيها الجِبالَ يَوْمَ الأحَدِ, وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ, وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ, وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأرْبَعَاءِ, وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يوم الخَمِيسِ, وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ آخِرِ خَلْق في آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ ساعاتِ الجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ".
وقوله: ( وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ) يقول: وتجعلون لمن خلق ذلك كذلك أندادا, وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله, وقد بيَّنا معنى الندّ بشواهده فيما مضى قبل.
وقوله: ( ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) يقول: الذي فعل هذا الفعل, وخلق الأرض في يومين, مالك جميع الجن والإنس, وسائر أجناس الخلق, وكل ما دونه مملوك له, فكيف يجوز أن يكون له ندّ؟! هل يكون المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء ندّا لمالكه القادر عليه؟.
القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
يقول تعالى ذكره: وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالا رواسي, وهي الثوابت في الأرض من فوقها, يعني: من فوق الأرض على ظهرها.
وقوله: ( وَبَارَكَ فِيهَا ) يقول: وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها.
وقد ذُكر عن السديّ في ذلك ما حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ: ( وَبَارَكَ فِيهَا ) قال: أنبت شجرها.( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا )
اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: أرزاقها.
حدثني موسى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: قدر فيها أرزاق العباد, ذلك الأقوات.
حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) يقول: أقواتها لأهلها.
وقال آخرون: بل معناه: وقدر فيها ما يصلحها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن سهل, قال: ثنا الوليد بن مسلم, عن خليد بن دعلج, عن قتادة, قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: صلاحها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) : خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها, وساكنها من الدواب كلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر فيها أقواتها من المطر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: من المطر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الآخر منها لمعاش, بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسين بن محمد الذارع, قال: ثنا أبو محصن, قال: ثنا حسين, عن عكرمة, في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: اليمانيّ باليمن, والسابريّ بسابور.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع, قال: ثنا أبو محصن, عن حصين, قال: قال عكرمة ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) اليمانية باليمن, والسابرية بسابور, وأشباه هذا.
حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا ابن إدريس, قال: سمعت حصينا عن عكرمة في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها, اليماني باليمن, والسابري بسابور.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون لغيره, ألا ترى أن السابري إنما يكون بسابور, وأن العصب إنما يكون باليمن ونحو ذلك.
حدثني إسماعيل بن سيف, قال: ثنا ابن عبد الواحد بن زياد, عن خصيف, عن مجاهد, في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: السابريّ بسابور, والطيالسة من الريّ.
حدثني إسماعيل, قال: ثنا أبو النضر صاحب البصري, قال: ثنا أبو عوانة, عن مطرف, عن الضحاك في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: السابريّ بسابور, والطيالسة من الريّ.
فى قوله ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) قال: السابريّ من سابور, والطيالسة من الريّ, والحِبَر من اليمن.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها, وذلك ما يقوتهم من الغذاء, ويصلحهم من المعاش, ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) أنه قَدّر فيها قوتا دون قوت, بل عم الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات, ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء, وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرّف في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض, ومما أخرج من الجبال من الجواهر, ومن البحر من المآكل والحليّ, ولا قول في ذلك أصح مما قال جلّ ثناؤه: قدّر في الأرض أقوات أهلها, لما وصفنا من العلة.
وقال جلّ ثناؤه: ( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس, عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام, أوّلهنّ يوم الأحد, وآخرهن يوم الأربعاء.
حدثني موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: خلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين, في الثلاثاء والأربعاء.
وقال بعض نحويي البصرة: قال. خلق الأرض في يومين, ثم قال في أربعة أيام, لأنه يعني أن هذا مع الأول أربعة أيام, كما تقول: تزوّجت أمس امرأة, واليوم ثنتين, وإحداهما التي تزوّجتها أمس.
وقوله: ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويله, فقال بعضهم: تأويله: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض, وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة, وقدّر فيها الأقوات بأهلها, وجَدَهُ كما أخبر الله أربعه أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) من سأل عن ذلك وجده, كما قال الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) قال: من سأل فهو كما قال الله.
حدثنا موسى بن هارون, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) يقول: من سأل فهكذا الأمر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق, فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض, على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) قال: قدّر ذلك على قدر مسائلهم, يعلم ذلك أنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون. واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر والحسن البصري: ( سَوَاءً ) بالنصب. وقرأه أبو جعفر القارئ: " سَوَاءٌ" بالرفع. وقرأ الحسن: " سَوَاءٍ" بالجر.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار, وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه, ولصحة معناه. وذلك أن معنى الكلام: قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة, وعلى ما يصلحهم.
وقد ذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: " وَقَسَّمَ فِيهَا أقْوَاتَهَا ".
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواءً, فقال بعض نحويي البصرة: من نصبه جعله مصدرا, كأنه قال: استواء. قال: وقد قرئ بالجر وجعل اسما للمستويات: أي في أربعة أيام تامَّة. وقال بعض نحويي الكوفة: من خفض سواء, جعلها من نعت الأيام, وإن شئت من نعت الأربعة, ومن نصبها جعلها متصلة بالأقوات. قال: وقد ترفع كأنه ابتداء, كأنه قال: ذلك ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) يقول: لمن أراد علمه.
والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالا من الأقوات, إذ كانت سواء قد شبهت بالأسماء النكرة, فقيل: مررت بقوم سواء, فصارت تتبع النكرات, وإذا تبعت النكرات انقطعت من المعارف فنصبت, فقيل: مررت بإخوتك سواء, وقد يجوز أن يكون إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر. وأما إذا رُفعت, فإنما ترفع ابتداء بضمير ذلك ونحوه, وإذا جرت فعلى الاتباع للأيام أو للأربعة.
وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) يعني تعالى ذكره: ثم استوى إلى السماء, ثم ارتفع إلى السماء.
وقد بيَّنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل.
وقوله: ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) يقول جلّ ثناؤه: فقال الله للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما, أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم, وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات, وتشقَّقِي عن الأنهار ( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) جئنا بما أحدثت فينا من خلقك, مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام, قال: ثنا ابن يمان, قال: ثنا سفيان, عن ابن جريج, عن سليمان بن موسى, عن مجاهد, عن ابن عباس,( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) قال: قال الله للسموات: أطلعي شمسي وقمري, وأطلعي نجومي, وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي ثمارك, فقالتا: أعطينا طائعين.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن ابن جريج, عن سليمان الأحول, عن طاوس, عن ابن عباس, في قوله ( اِئْتِيَا ) : أعطيا. وفي قوله: ( قَالَتَا أَتَيْنَا ) قالتا: أعطينا.
وقيل: أتينا طائعين, ولم يقل طائعتين, والسماء والأرض مؤنثتان, لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله ( أَتَيْنَا ) نظيره كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم, فأجرى قوله ( طَائِعِينَ ) على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك. وقد كان بعض أهل العربية يقول: ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهنّ.
وقال آخرون منهم: قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم.
القول في تأويل قوله تعالى : فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
يقول تعالى ذكره: ففرغ من خلقهنّ سبع سموات في يومين, وذلك يوم الخميس ويوم الجمعة.
كما حدثني موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قال: استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ففتقها, فجعلها سبع سموات في يومين, في الخميس والجمعة. وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض.
وقوله: ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) يقول: وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) قال: ما أمر الله به وأراده.
حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) قال: خلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد, وما لا يعلم.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
وقوله: ( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ) يقول تعالى ذكره: وزيَّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح.
كما حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) قال: ثم زين السماء بالكواكب, فجعلها زينة ( وَحِفْظًا ) من الشياطين.
واختلف أهل العربية في وجه نصبه قوله: ( وَحِفْظًا ) فقال بعض نحويي البصرة: نصب بمعنى: وحفظناها حفظا, كأنه قال: ونحفظها حفظا, لأنه حين قال: " زَيَّنَّاهَا بِمَصَابِيحَ" قد أخبر أنه قد نظر في أمرها وتعهدها, فهذا يدلّ على الحفظ, كأنه قال: وحفظناها حفظا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: نصب ذلك على معنى: وحفظا زيناها, لأن الواو لو سقطت لكان إنا زينا السماء الدنيا حفظا; وهذا القول الثاني أقرب عندنا للصحة من الأوّل.
وقد بيَّنا العلة في نظير ذلك في غير موضع من هذا الكتاب, فأغنى ذلك عن إعادته.
وقوله: ( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما, وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب, على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه, العليم بسرائر عباده وعلانيتهم, وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم.
القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
يقول تعالى ذكره: فإن أعرض هؤلاء المشركون عن هذه الحجة التي بيَّنتها لهم يا محمد, ونبهتهم عليها فلم يؤمنوا بها ولم يقروا أن فاعل ذلك هو الله الذي لا إله غيره, فقل لهم: أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد وثمود.
وقد بيَّنا فيما مضى أن معنى الصاعقة: كلّ ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وقيل في هذا الموضع عنى بها وقيعة من الله وعذاب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: ( صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) قال: يقول: أنذرتكم وقيعة عاد وثمود, قال: عذاب مثل عذاب عاد وثمود.
وقوله: ( إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) يقول: فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقه عاد وثمود التي أهلكتهم, إذ جاءت عادا وثمود الرسل من بين أيديهم; فقوله " إذ " من صلة صاعقة. وعنى بقوله: ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) الرسل التي أتت آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين.
وعنى بقوله: ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) : من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلا إليهم, وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا, فكذبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى آبائهم أيضا, فكذبوهم, فأهلكوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( فَإِنْ أَعْرَضُوا )... إلى قوله: ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) قال: الرسل التي كانت قبل هود, والرسل الذين كانوا بعده, بعث الله قبله رسلا وبعث من بعده رسلا.
وقوله: ( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) يقول تعالى ذكره: جاءتهم الرسل بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له.
قالوا: ( لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنـزلَ مَلائِكَةً ) يقول جل ثناؤه: فقالوا لرسلهم إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله: لو شاء ربنا أن نوحده, ولا نعبد من دونه شيئا غيره, لأنـزل إلينا ملائكة من السماء رسلا بما تدعوننا أنتم إليه, ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا, ولكنه رضي عبادتنا ما نعبد, فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك ملائكة.
وقوله: ( فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) يقول: قال لرسلهم: فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به.
القول في تأويل قوله تعالى : فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
يقول تعالى ذكره: ( فَأَمَّا عَادٌ ) قوم هود ( فَاسْتَكْبَرُوا ) على ربهم وتجبروا( فِي الأرْضِ ) تكبرا وعتوّا بغير ما أذن الله لهم به ( وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ ) وأعطاهم ما أعطاهم من عظم الخلق, وشدة البطش ( هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) فيحذروا عقابه, ويتقوا سطوته لكفرهم به, وتكذيبهم رسله. يقول: وكانوا بأدلتنا وحججنا عليهم يجحدون.