القول في تأويل قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
يقول تعالى ذكره: الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره خالق السماوات السبع والأرض، (جَاعِلِ الْمَلائِكَةَ رُسُلا) إلى من يشاء من عباده، وفيما شاء من أمره ونهيه (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) يقول: أصحاب أجنحة يعني ملائكة، فمنهم من له اثنان من الأجنحة، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) قال: بعضهم له جناحان وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة.
واختلف أهل العربية في علة ترك إجراء مثنى وثلاث ورباع، وهي ترجمة عن أجنحة وأجنحة نكرة؛ فقال بعض نحويي البصرة: تُرك إجراؤهن لأنهن مصروفات عن وجوههن، وذلك أن مثنى مصروف عن اثنين وثلاث عن ثلاثة ورباع عن أربعة، فصرف نظير عُمَرَ وَزُفَرَ، إذ صرف هذا عن عامر إلى عمر وهذا عن زافر إلى زفر، وأنشد بعضهم في ذلك:
وَلَقَــدْ قَتَلْتُكُــمْ ثُنَــاءَ وَمَوْحَــدَا
وَتَــركتُ مـرَّةَ مِثْـلَ أمسِ المُدبِـرِ (5)
وقال آخر منهم: لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة، قال: وهذا لا يستعمل إلا في حال العدد.
وقال بعض نحويي الكوفة: هن مصروفات عن المعارف، لأن الألف واللام لا تدخلها، والإضافة لا تدخلها، قال: ولو دخلتها الإضافة والألف واللام لكانت نكرة، وهي ترجمة عن النكرة، قال: وكذلك ما كان في القرآن مثل أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى وكذلك وحاد وأحاد، وما أشبهه من مصروف العدد.
وقوله (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا الملك من الأجنحة على الآخر ما يشاء، ونقصانه عن الآخر ما أحب، وكذلك ذلك في جميع خلقه يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه، وينقص ما شاء من خلق ما شاء، له الخلق والأمر وله القدرة والسلطان (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء، ونقصان ما شاء منه ممن شاء، وغير ذلك من الأشياء كلها، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى.
------------------------
الهوامش:
(5) البيت لصخر بن عمرو بن الشريد السلمي. وقد تقدم الاستشهاد به، مع شواهد أخرى في (4 : 337) من هذا التفسير فراجعه ثمة. وأنشده أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 201) قال: مثنى وثلاث ورباع: مجازه: اثنين، وثلاثة، وأربعة. فزعم النحويون أنه لما صرف عن وجهه لم ينون فيهن. قال صخر بن عمرو: "ولقد قتلتكم ..... البيت" . ا . هـ.
القول في تأويل قوله تعالى : مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
يقول تعالى ذكره: مفاتيح الخير ومغالقه كلها بيده؛ فما يفتح الله للناس من خير فلا مُغلق له، ولا ممسك عنهم، لأن ذلك أمره لا يستطيع أمره أحد، وكذلك ما يغلق من خير عنهم فلا يبسطه عليهم ولا يفتحه لهم، فلا فاتح له سواه؛ لأن الأمور كلها إليه وله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ) أي: من خير (فَلا مُمْسِكَ لَهَا) فلا يستطيع أحد حبسها(وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) وقال تعالى ذكره (فَلا مُمْسِكَ لَهَا) فأنث ما لذكر الرحمة من بعده وقال (وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) فذكر للفظ " ما " لأن لفظه لفظ مذكر، ولو أنث في موضع التذكير للمعنى وذكر في موضع التأنيث للفظ، جاز، ولكن الأفصح من الكلام التأنيث إذا ظهر بعد ما يدل على تأنيثها والتذكير إذا لم يظهر ذلك.
وقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول: وهو العزيز في نِقمته ممن انتقم منه من خلقه بحبس رحمته عنه وخيراته، الحكيم في تدبير خلقه وفتحه لهم الرحمة إذا كان فتح ذلك صلاحًا، وإمساكه إياه عنهم إذا كان إمساكه حكمة.
القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قوم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من قريش: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) التي أنعمها(عَلَيْكُمْ) بفتحه لكم من خيراته ما فتح وبسطه لكم من العيش ما بسط وفكروا فانظروا هل من خالق سوى فاطر السماوات والأرض الذي بيده مفاتيح أرزاقكم ومغالقها(يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) فتعبدوه دونه (لا إله إلا هو ) يقول: لا معبود تنبغي له العبادة إلا الذي فطر السماوات والأرض القادر على كل شيء، الذي بيده مفاتح الأشياء وخزائنها، ومغالق ذلك كله، فلا تعبدوا أيها الناس شيئًا سواه، فإنه لا يقدر على نفعكم وضركم سواه، فله فأخلصوا العبادة وإياه فأفردوا بالألوهة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) يقول: فأي وجه عن خالقكم ورازقكم الذي بيده نفعكم وضركم تصرفون.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) يقول الرجل: إنه ليوفك عني كذا وكذا. وقد بينت معنى الإفك، وتأويل قوله (تُؤْفَكُونَ) فيما مضى بشواهده المغنية عن تكريره.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (4)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله من قومك فلا يحزننك ذاك، ولا يعظم عليك، فإن ذلك سنة أمثالهم من كفرة الأمم بالله، من قبلهم وتكذيبهم رسل الله التي أرسلها إليهم من قبلك، ولن يعدو مشركو قومك أن يكونوا مثلهم، فيتبعوا في تكذيبك منهاجهم ويسلكوا سبيلهم (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجعُ الأمُورُ) يقول تعالى ذكره: وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم، فمُحِل بهم العقوبة، إن هم لم ينيبوا إلى طاعتنا في اتباعك والإقرار بنبوتك، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة، نظير ما أحللنا بنظرائهم من الأمم المكذبة رسلها قبلك، ومنجيك وأتباعك من ذلك، سنتنا بمن قبلك في رسلنا وأوليائنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) يعزي نبيه كما تسمعون.
وقوله ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش المكذبي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها الناس إن وعد الله إياكم بأسه على إصراركم على الكفر به، وتكذيب رسوله محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وتحذيركم نـزول سطوته بكم على ذلك، حق، فأيقنوا بذلك وبادروا حلول عقوبتكم بالتوبة والإنابة إلى طاعة الله والإيمان به وبرسوله ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) يقول: فلا يغرنكم ما أنتم فيه من العيش في هذه الدنيا ورياستكم التي تترأسون بها في ضعفائكم فيها عن اتباع محمد والإيمان ( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول: ولا يخدعنكم بالله الشيطان، فيمنيكم الأماني، ويعدكم من الله العدات الكاذبة، ويحملكم على الإصرار على كفركم بالله.
كما حدثني علي قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله ( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) يقول: الشيطان.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ الشَّيْطَانَ) الذي نهيتكم أيها الناس أن تغتروا بغروره إياكم بالله ( لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) يقول: فأنـزلوه من أنفسكم منـزلة العدو منكم واحذروه بطاعة الله واستغشاشكم إياه حذركم من عدوكم الذي تخافون غائلته على أنفسكم، فلا تطيعوه ولا تتبعوا خطواته، فإنه إنما يدعو حزبه، ينعي شيعته ومن أطاعه، إلى طاعته والقبول منه، والكفر بالله ( لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) يقول: ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) فإنه لحق على كل مسلم عداوته، وعداوته أن يعاديه بطاعة الله (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ) وحزبه: أولياؤه ( لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) أي: ليسوقهم إلى النار فهذه عداوته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) وقال: هؤلاء حزبه من الإنس، يقول: أولئك حزب الشيطان، والحزب: ولاته الذين يتولاهم ويتولونه وقرأ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَـزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
يقول تعالى ذكره: (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله (لَهُمْ عَذَابٌ) من الله (شَدِيدٌ) وذلك عذاب النار. وقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يقول: والذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله وانتهوا عما نهاهم عنه (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الله لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وذلك الجنة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهي الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
يقول تعالى ذكره: أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به، وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان، فرآه حسنًا فحسب سيئ ذلك حسنًا، وظن أن قبحه جميل، لتزيين الشيطان ذلك له. ذهبت نفسك عليهم حسرات، وحذف من الكلام: ذهبت نفسك عليهم حسرات اكتفاء بدلالة قوله (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) منه، وقوله (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يقول: فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك، فيضله عن الرشاد إلى الحق في ذلك، ويهدي من يشاء، يقول: ويوفق من يشاء للإيمان به واتباعك والقبول منك، فتهديه إلى سبيل الرشاد ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) يقول: فلا تهلك نفسك حزنًا على ضلالتهم وكفرهم بالله وتكذيبهم لك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) قال قتادة والحسن: الشيطان زيَّن لهم ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) أي: لا يحزنك ذلك عليهم؛ فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) قال: الحسرات الحزن، وقرأ قول الله يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ووقع قوله ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) موضع الجواب، وإنما هو منبع الجواب، لأن الجواب هو المتروك الذي ذكرت، فاكتفى به من الجواب لدلالته على الجواب ومعنى الكلام.
واختلفت القراء في قراءة قوله ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) فقرأته قراء الأمصار سوى أَبي جعفر المدني (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) بفتح التاء من " تذهب " و " نفسك " برفعها. وقرأ ذلك أَبو جعفر (فَلا تُذْهِبَ) بضم التاء من " تذهب " و " نفسك " بنصبها، بمعنى: لا تذهب أنت يا محمد نفسك.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار؛ لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن الله يا محمد ذو علم بما يصنع هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وهو محصيه عليهم، ومجازيهم به جزاءهم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
يقول تعالى ذكره: والله الذي أرسل الرياح فتثير السحاب للحيا والغيث ( فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ) يقول: فسقناه إلى بلد مجدب الأهل، محل الأرض، داثر لا نبت فيه ولا زرع ( فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) يقول: فأخصبنا بغيث ذلك السحاب الأرض التي سقناه إليها بعد جدوبها، وأنبتنا فيها الزرع بعد المحل (كَذَلِكَ النُّشُورُ) يقول تعالى ذكره: هكذا يُنْشِر الله الموتى بعد بلائهم في قبورهم، فيحييهم بعد فنائهم، كما أحيينا هذه الأرض بالغيث بعد مماتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن قال: ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال: ثنا أَبو الزعراء عن عبد الله قال: يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون، فليس من بني آدم إلا وفي الأرض منه شيء، قال: فيرسل الله ماءً من تحت العرش؛ منيًّا كمني الرجل، فتنبت أجسادهم ولحمانهم من ذلك، كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ ( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ...) إلى قوله (كَذَلِكَ النُّشُورُ) قال: ثم يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها فتدخل فيه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) قال: يرسل الرياح فتسوق السحاب، فأحيا الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء، فكذلك يبعثه يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) فقال بعضهم: معنى ذلك: من كان يريد العزة بعبادة الآلهة والأوثان فإن العزة لله جميعًا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ) يقول: من كان يريد العزة بعبادته &; 20-444 &; الآلهة فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
وقال آخرون: معنى ذلك من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) يقول: فليتعزز بطاعة الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: من كان يريد علم العزة لمن هي، فإنها لله جميعًا كلها أي: كل وجه من العزة فلله.
والذي هو أولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: من كان يريد العزة فبالله فليتعزز، فلله العزة جميعًا، دون كل ما دونه من الآلهة والأوثان.
وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب لأن الآيات التي قبل هذه الآية، جرت بتقريع الله المشركين على عبادتهم الأوثان، وتوبيخه إياهم، ووعيده لهم عليها، فأولى بهذه أيضًا أن تكون من جنس الحث على فراق ذلك، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، وكانت في سياقها.
وقوله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) يقول تعالى ذكره: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه عليه (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يقول: ويرفع ذكر العبد ربه إليه عمله الصالح، وهو العمل بطاعته، وأداء فرائضه والانتهاء إلى ما أمر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي قال: أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده، الحمد لله لا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحيه ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيي بهن وجه الرحمن، ثم قرأ عبد الله ( وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلية، قال: أخبرنا سعيد الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: قال كعب: إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لدويًّا حول العرش كدوي النحل يذكرن بصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن.
حدثني يونس، قال: ثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري قوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
حدثني علي، ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال: الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله سبحانه في أداء فرائضه حمل عليه ذكر الله فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله، ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله فكان أولى به.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد قوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال: قال الحسن وقتادة: لا يقبل الله قولا إلا بعمل، من قال وأحسن العمل قبل الله منه.
وقوله (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ) يقول تعالى ذكره: والذين يكسبون السيئات لهم عذاب جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثني سعيد، عن قتادة قوله ( وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) قال: هؤلاء أهل الشرك.
وقوله (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) يقول: وعمل هؤلاء المشركين يبور، فيبطل فيذهب؛ لأنه لم يكن لله، فلم ينفع عامله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) أى: يفسد.
حدثني يونس قال: أخبرنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال: هم أصحاب الرياء.
حدثني محمد بن عمارة قال: ثنا سهل بن أبي عامر قال: ثنا جعفر الأحمر عن شهر بن حوشب في قوله (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال: هم أصحاب الرياء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قال: بار فلم ينفعهم ولم ينتفعوا به، وضرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
يقول تعالى ذكره: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ) أيها الناس (مِنْ تُرَابٍ) يعني بذلك أنه خلق أباهم آدم من تراب؛ فجعل خلق أبيهم منه لهم خلقًا(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يقول: ثم خلقكم من نطفة الرجل والمرأة (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا) يعني أنه زوج منهم الأنثى من الذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) يعني آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يعني ذريته (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا) فزوج بعضكم بعضًا.
وقوله ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ) يقول تعالى ذكره: وما تحمل من أنثى منكم أيها الناس من حمل ولا نطفة إلا وهو عالم بحملها إياه ووضعها وما هو؟ ذكر أو أنثى؟ لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وقوله ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: وما يعمر من معمر فيطول عمره، ولا ينقص من عمر آخر غيره عن عمر هذا الذي عمر عمرًا طويلا(إِلا فِي كِتَابٍ) عنده مكتوب قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن تضعه، قد أحصى ذلك كله وعلمه قبل أن يخلقه، لا يزاد فيما كتب له ولا ينقص.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ...) إلى (يَسِير) يقول: ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، وإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه فذلك قوله ( وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) يقول: كل ذلك في كتاب عنده.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: من قضيت له أن يعمر حتى يدركه الكبر، أو يعمر أنقص من ذلك، فكل بالغ أجله الذي قد قضى له، كل ذلك في كتاب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) قال: ألا ترى الناس؛ الإنسان يعيش مائة سنة، وآخر يموت حين يولد؟ فهذا هذا، فالهاء التي في قوله (ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمْرِهِ) على هذا التأويل، وإن كانت في الظاهر أنها كناية عن اسم المعمر الأول، فهي كناية اسم آخر غيره، وإنما حسن ذلك لأن صاحبها لو أظهر لظهر بلفظ الأول، وذلك كقولهم: عندي ثوب ونصفه، والمعنى: ونصف الآخر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعمر من معمَّر ولا ينقص من عمره بفناء ما فني من أيام حياته، فذلك هو نقصان عمره، والهاء على هذا التأويل للمعمر الأول، لأن معنى الكلام: ما يطول عمر أحد، ولا يذهب من عمره شيء، فيُنقَص إلا وهو في كتاب عند الله مكتوب، قد أحصاه وعلمه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أَبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال: ثنا عبثر قال: ثنا حصين عن أَبي مالك في هذه الآية ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ ) قال: ما يقضي من أيامه التي عددت له إلا في كتاب.
وأولى التأويلين في ذلك عندي الصواب التأويل الأول، وذلك أن ذلك &; 20-449 &; هو أظهر معنييه، وأشبههما بظاهر التنـزيل.
وقوله (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن إحصاء أعمار خلقه عليه يسير سهل، طويل ذلك وقصيره، لا يتعذر عليه شيء منه.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يقول تعالى ذكره: وما يعتدل البحران فيستويان؛ أحدهما عذب فرات، والفرات: هو أعذب العذب، وهذا ملح أجاج يقول: والآخر منهما ملح أجاج وذلك هو ماء البحر الأخضر، والأجاج: المر وهو أشد المياه ملوحة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (وهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) والأجاج: المر.
وقوله ( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) يقول: ومن كل البحار تأكلون لحمًا طريًّا، وذلك السمك من عذبهما الفرات وملحهما الأجاج (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) يعني: الدر والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج، وقد بيَّنا قبل وجه (تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) وإنما يستخرج من الملح، فيما مضى بما أغنى عن إعادته.(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) يقول تعالى ذكره: وترى السفن في كل تلك البحار مواخر تمخر الماء بصدورها، وذلك خرقها إياه إذا مرت واحدتها ماخرة، يقال منه: مَخَرت تَمْخُر وتمخَر مخرًا، وذلك إذا شقت الماء بصدورها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا) أي: منهما جميعًا(وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) هذا اللؤلؤ(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) فيه السفن مقبلة ومدبرة بريح واحدة.
حدثنا علي قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ) يقول: جواريَ.
وقوله (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يقول: لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك من معايشكم، ولتتصرفوا فيها في تجاراتكم، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم، وما رزقكم منه من طيبات الرزق وفاخر الحلي.
القول في تأويل قوله تعالى : يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
يقول تعالى ذكره: يدخل الليل في النهار وذلك ما نقص من الليل أدخله في النهار فزاده فيه، ويولج النهار في الليل وذلك ما نقص من أجزاء النهار زاد في أجزاء الليل فأدخله فيها.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) زيادة هذا فى نقصان هذا، ونقصان هذا في زيادة هذا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) يقول: هو انتقاص أحدهما من الآخر.
&; 20-451 &; وقوله ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: وأجرى لكم الشمس والقمر نعمة منه عليكم، ورحمة منه بكم؛ لتعلموا عدد السنين والحساب، وتعرفوا الليل من النهار.
وقوله (كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: كل ذلك يجري لوقت معلوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ) أجل معلوم، وحد لا يقصر دونه ولا يتعداه.
وقوله (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يقول: الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم أيها الناس الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله ربكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي: هو الذي يفعل هذا.
وقوله (لَهُ الْمُلْكُ) يقول تعالى ذكره: له الملك التام الذي لا شىء إلا وهو في ملكه وسلطانه.
وقوله ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) يقول تعالى ذكره: والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الآيات الذي له الملك الكامل، الذي لا يشبهه ملك، صفته (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) يقول: ما يملكون قشر نواة فما فوقها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل &; 20-452 &; .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب قال: ثنا هشيم قال: أخبرنا عوف عمن حدثه عن ابن عباس في قوله (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال: هو جلد النواة.
حدثني علي قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله (مِنْ قِطْمِيرٍ) يقول: الجلد الذي يكون على ظهر النواة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) يعني: قشر النواة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (مِنْ قِطْمِيرٍ) قال: لفافة النواة كسحاة البيضة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) والقطمير: القشرة التي على رأس النواة.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جويبر عن بعض أصحابه في قوله (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال: هو القِمَع الذي يكون على التمرة.
حدثنا ابن بشار قال: ثنا أبو عامر قال: ثنا مرة عن عطية قال: القطمير: قشر النواة.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قوله ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) يقول تعالى ذكره: إن تدعوا أيها الناس هؤلاء الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جماد لا تفهم عنكم ما تقولون ( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) يقول: ولو سمعوا دعاءكم إياهم، وفهموا عنكم أنها قولكم، بأن جعل لهم سمع يسمعون به، ما استجابوا لكم؛ لأنها ليست ناطقة، وليس كل سامع قولا متيسرًا له الجواب عنه، يقول تعالى ذكره للمشركين به الآلهة والأوثان: فكيف تعبدون من دون الله من هذه صفته، وهو لا نفع لكم عنده، ولا قدرة له على ضركم، وتدعون عبادة الذي بيده نفعكم وضركم، وهو الذي خلقكم وأنعم عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ) أي: ما قبلوا ذلك عنكم، ولا نفعوكم فيه.
وقوله ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) يقول تعالى ذكره للمشركين من عبدة الأوثان: ويوم القيامة تتبرأ آلهتكم التي تعبدونها من دون الله من أن تكون كانت لله شريكًا في الدنيا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) إياهم ولا يرضون ولا يقرون به.
وقوله (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) يقول تعالى ذكره: ولا يخبرك يا محمد عن آلهة هؤلاء المشركين وما يكون من أمرها وأمر عَبَدَتها يوم القيامة؛ من تبرئها منهم، وكفرها بهم، مثل ذي خبرة بأمرها وأمرهم، وذلك الخبير هو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان أو يكون سبحانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل &; 20-454 &; .
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) والله هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس أنتم أولو الحاجة والفقر إلى ربكم فإياه فاعبدوا، وفي رضاه فسارعوا، يغنكم من فقركم، وتُنْجِح لديه حوائجكم (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ) عن عبادتكم إياه وعن خدمتكم، وعن غير ذلك من الأشياء؛ منكم ومن غيركم (الْحَمِيدُ) يعني: المحمود على نعمه؛ فإن كل نعمة بكم وبغيركم فمنه، فله الحمد والشكر بكل حال.