تفسير
الم
1
القول في تأويل قوله تعالى : الم (1)
وقد تقدّم بياننا تأويل قول الله تعالى ذكره (الم).
وقوله: (تِلكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ) يقول جل ثناؤه: هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا.
وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً) يقول: هذه آيات الكتاب بيانا ورحمة من الله، رحم به من اتبعه، وعمل به من خلقه، وبنصب الهدى والرحمة على القطع من آيات الكتاب قرأت قرّاء الأمصار غير حمزة، فإنه قرأ ذلك رفعا على وجه الاستئناف، إذ كان منقطعا عن الآية التي قبلها بأنه ابتداء آية وأنه مدح، والعرب تفعل ذلك مما كان من نعوت المعارف، وقع موقع الحال إذا كان فيه معنى مدح أو ذمّ. وكلتا القراءتين صواب عندي، وإن كنت إلى النصب أميل، لكثرة القراء به.
وقوله: (للْمُحْسِنِينَ) وهم الذين أحسنوا في العمل بما أنـزل الله في هذا القرآن، يقول تعالى ذكره: هذا الكتاب الحكيم هدى ورحمة للذين أحسنوا، فعملوا بما فيه من أمر الله ونهيه .
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يقول: الذين يقيمون الصَّلاةَ المفروضة بحدودها(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) من جعلها الله له المفروضة في أموالهم (وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) يقول: يفعلون ذلك وهم بجزاء الله وثوابه لمن فعل ذلك في الآخرة يوقنون.
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم على بيان من ربهم ونور (وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحونَ) يقول: وهؤلاء هم المنْجِحون المدركون ما رَجَوا وأملوا من ثواب ربهم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
اختلف أهل التأويل، في تأويل قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث) فقال بعضهم: من يشتري الشراء المعروف بالثمن، ورووا بذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو ما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن خلاد الصفار، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَلا التِّجارَةُ فِيهِنَّ، وَلا أثمَانُهُنَّ، وفيهنّ نـزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن خَلاد الصفار، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، إلا أنه قال: " أكْلُ ثَمَنِهِنَّ حَرَامٌ" وقال أيضا: " وفِيهِنَّ أنـزلَ اللهُ عليَّ هَذِهِ الآيَةَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ".
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سليمان بن حيان، عن عمرو بن قيس الكلابي، عن أبي المهلَّب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة. قال: وثنا إسماعيل بن عَياش، عن مُطَرَّح بن يزيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن عليّ بن زيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحلّ تَعْلِيمُ المُغَنِّياتِ، وَلا بَيْعُهُنَّ وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَثمَنُهُنَّ حَرامٌ، وقَدْ نـزلَ تَصْدِيقُ ذلكَ فِي كِتابِ الله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) إلى آخر الآية ".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: من يختار لهو الحديث ويستحبه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ) والله لعله أن لا ينفق فيه مالا، &; 20-127 &; ولكن اشتراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا ابن شوذب، عن مطر في قول الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) قال: اشتراؤه: استحبابه.
وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال: معناه: الشراء، الذي هو بالثمن، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه.
فإن قال قائل: وكيف يشتري لهو الحديث؟ قيل: يشتري ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديث، فيكون مشتريا لهو الحديث.
وأما الحديث، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الغناء والاستماع له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جُبَير، عن أبي الصهباء البكري (1) أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ) فقال عبد الله: الغناء، والذي لا إله إلا هو، يردّدها ثلاث مرّات.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا صفوان بن عيسى، قال: أخبرنا حميد الخراط، عن عمار، عن سعيد بن جُبَير، عن أبي الصهباء، أنه سأل ابن مسعود، عن قول الله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عليّ بن عابس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا عمران بن عيينة، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء وأشباهه.
حدثنا ابن وكيع، والفضل بن الصباح، قالا ثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء ونحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس، مثله.
حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: هو الغناء والاستماع له، يعني قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ).
حدثنا الحسن بن عبد الرحيم، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا سفيان، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن جابر في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء والاستماع له.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم أو مقسم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: شراء المغنية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص والمحاربي، عن ليث، عن الحكم، عن ابن عباس، قال: الغناء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال: باطل الحديث: هو الغناء ونحوه.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن مجاهد قال: الغناء.
قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا الأشجعي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن مجاهد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء، وكلّ لعب لهو.
حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي، قال: ثنا عليّ بن حفص الهمداني، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء والاستماع له وكل لهو.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: المغني والمغنية بالمال الكثير، أو استماع إليه، أو إلى مثله من الباطل.
حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: هو الغناء أو الغناء منه، أو الاستماع له.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثام بن عليّ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن شعيب بن يسار، عن عكرِمة قال: (لَهْوَ الحَدِيثِ) : الغناء.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا عثام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن شعيب بن يسار هكذا قال عكرِمة، عن عبيد، مثله.
حدثنا الحسين بن الزبرقان النخعي، قال: ثنا أبو أسامة وعبيد الله، عن أسامة، عن عكرِمة في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال: الغناء.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن عكرِمة، قال: الغناء.
وقال آخرون: عنى باللهو: الطبل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج الأعور، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: اللهو: الطبل.
وقال آخرون: عنى بلهو الحديث: الشرك.
* ذكر من قال ذلك:
حديث عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) يعني: الشرك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ بغيرِ عِلْمٍ وِيتَّخِذَها هُزُوًا) قال: هؤلاء أهل الكفر، ألا ترى إلى قوله: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فليس هكذا أهل الإسلام، قال: وناس يقولون: هي فيكم وليس كذلك، قال: وهو الحديث الباطل الذي كانوا يلغون فيه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله تعالى عمّ بقوله: (لَهْوَ الحَدِيثِ) ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك.
وقوله: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يقول: ليصدّ ذلك الذي يشتري من لهو الحديث عن دين الله وطاعته، وما يقرّب إليه من قراءة قرآن وذكر الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال: سبيل الله: قراءة القرآن، وذكر الله إذا ذكره، وهو رجل من قريش اشترى جارية مغنية.
وقوله: (بغَيرِ عِلْم) يقول: فعل ما فعل من اشترائه لهو الحديث جهلا منه بما له في العاقبة عند الله من وزر ذلك وإثمه. وقوله: (وَيَتَّخِذَها هُزُوًا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: (وَيَتَّخِذُها) رفعا، عطفا به على قوله: (يَشْتَرِي) كأن معناه عندهم: ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ويتخذ آيات الله هزوا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: (وَيَتَّخِذَها) نصبا عطفا على يضلّ، بمعنى: ليضلّ عن سبيل الله، وليتخذَها هُزُوًا.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته، والهاء والألف في قوله: (وَيَتَّخِذَها) من ذكر سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وَيَتَّخِذَها هُزُوًا) قال: سبيل الله.
وقال آخرون: بل ذلك من ذكر آيات الكتاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قال: بِحَسْب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع، ويتخذها هزوا يستهزئ بها ويكذّب بها. وهما من أن يكونا من ذكر سبيل الله أشبه عندي لقربهما منها، وإن كان القول الآخر غير بعيد من الصواب، واتخاذه ذلك هزوا هو استهزاؤه به.
وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ عذَابٌ مُهِينٌ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا أنهم يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله. لهم يوم القيامة عذاب مُذِلّ مخزٍ في نار جهنم.
---------------------
الهوامش :
(1) أبو الصهباء "كما في خلاصة الخزرجي": هو صهيب الهاشمي، عن مولاه ابن عباس، وعلى، وابن مسعود، ولم يقل في نسبته: البكري، هناك صهيب المكي أبو موسى الحذاء، ولم يكنه بأبي الصهباء.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
يقول تعالى ذكره: وإذا تُتلى على هذا الذي اشترى لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله آيات كتاب الله، فقرئت عليه (ولَّى مُسْتَكْبِرًا) يقول: أدبر عنها، واستكبر استكبارا، وأعرض عن سماع الحقّ والإجابة عنه (كأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنَّ فِي أُذُنَيهِ وَقْرًا) يقول: ثقلا فلا يطيق من أجله سماعه.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: (فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) قال: ثقلا.
وقوله: (فَبشِّرْهُ بعَذَابٍ ألِيمٍ) يقول تعالى ذكره: فبشر هذا المعرض عن آيات الله إذا تُلِيت عليه استكبارا بعذاب له من الله يوم القيامة مُوجِع، وذلك عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
يقول تعالى ذكره: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله فوحدوه، وصدّقوا رسوله واتبعوه (وَعمِلُوا الصَّالحَاتِ) يقول: فأطاعوا الله، فعملوا بما أمرهم في كتابه وعلى لسان رسوله، وانتهوا عما نهاهم عنه (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيم) يقول: لهؤلاء بساتين النعيم.
(خالدين فِيها) يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) يقول: وعدهم الله وعدا حقا، لا شكّ فيه ولا خلف له (وَهُوَ العَزِيزُ) يقول: وهو الشديد في انتقامه من أهل الشرك به، والصادّين عن سبيله (الحَكِيمُ) في تدبير خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
يقول تعالى ذكره: ومن حكمته أنه (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) السبع (بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)، وقد ذكرت فيما مضى اختلاف أهل التأويل في معنى قوله: (بغَيْرِ عمَدٍ تَرَوْنَها) وبيَّنا الصواب من القول في ذلك عندنا.
وقد حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن عمران بن حدير، عن عكرِمة، عن ابن عباس (بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال: لعلها بعمد لا ترونها.
وقال: ثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن بن مسلم، عن مجاهد قال: إنها بعمد لا ترونها.
قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سماك، عن عكرِمة، عن ابن عباس قال: لعلها بعمد لا ترونها.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد، عن سماك، عن عكرمة في هذا الحرف (خَلَقَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال: ترونها بغير عمد، وهي بِعمد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال: قال الحسن وقَتادة: إنها بغير عمد ترونها، ليس لها عمد.
وقال ابن عباس (بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) قال: لها عمد لا ترونها.
وقوله: ( وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) يقول: وجعل على ظهر الأرض رواسي، وهي ثوابت الجبال أن تميد بكم أن لا تميد بكم. يقول: أن لا تضطرب بكم، ولا تتحرّك يمنة ولا يسرة، ولكن تستقرّ بكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة: (وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ) : أي: جبالا(أنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أثبتها بالجبال، ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا، وذلك كما قال الراجز:
والمُهْرُ يأْبَى أنْ يَزَال مُلَهَّبا (2)
بمعنى: لا يزال.
وقوله: (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلّ دابَّةٍ) يقول: وفرّق في الأرض من كلّ أنواع الدوابّ. وقيل: الدوابّ اسم لكلّ ما أكل وشرب، وهو عندي لكلّ ما دبّ على الأرض.
وقوله: (وأنـزلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) يقول تعالى ذكره: وأنـزلنا من السماء مطرا، فأنبتنا بذلك المطر في الأرض من كلّ زوج، يعني: من كل نوع من النبات (كريم)، وهو الحسن النِّبتة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) : أي حسن.
---------------------
الهوامش :
(2) البيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن الورقة 251). قال عند تفسير قوله تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم): لئلا تميد بكم؛ و (أن) في هذا الموضع تكفي من (لا) كما قال الشاعر:
والمهــر يــأتي أن يــزل ملهبًـا
• معناه : يأبى أن لا يزال . ا هـ .
القول في تأويل قوله تعالى : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعددت عليكم أيها الناس أني خلقته في هذه الآية خلق الله الذي له ألوهة كل شيء، وعبادة كل خلق، الذي لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه، فأروني أيها المشركون في عبادتكم إياه من دونه من الآلهة والأوثان، أي شيء خلق الذين من دونه من آلهتكم وأصنامكم، حتى استحقت عليكم العبادة فعبدتموها من دونه؟ كما استحقّ ذلك عليكم خالقكم، وخالق هذه الأشياء التي عددتها عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (هَذَا خَلْقُ اللهِ) ما ذكر من خلق السموات والأرض، وما بثّ من الدوابّ، وما أنبت من كلّ زوج كريم (فأرونِي ماذا خلق الذين مِن دُونِه) الأصنام الذين تدعون من دونه.
وقوله: (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: ما عبد هؤلاء المشركون الأوثان والأصنام من أجل أنها تخلق شيئا، ولكنهم دعاهم إلى عبادتها ضلالهم، وذهابهم عن سبيل الحقّ، فهم في ضلال: يقول: فهم في جور عن الحقّ، وذهاب عن الاستقامة مبين: يقول: يبين لمن تأمله، ونظر فيه وفكَّر بعقل أنه ضلال لا هدى.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا لقمان الفقه في الدين والعقل والإصابة في القول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمان الحِكْمَةَ) قال: الفقه والعقل والإصابة في القول من غير نبوّة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ) أي الفقه في الإسلام، قال قَتادة: ولم يكن نبيا، ولم يوح إليه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن مجاهد في قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ) قال: الحكمة: الصواب، وقال غير أبي بشر: الصواب في غير النبوّة.
حدثنا ابن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد &; 20-135 &; أنه قال: كان لقمان رجلا صالحا، ولم يكن نبيا.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي وابن حميد، قالا ثنا حكام، عن سعيد الزبيدي، عن مجاهد قال: كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، قاضيا على بني إسرائيل.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كان لقمان عبدا أسود، عظيم الشفتين، مشقَّق القدمين.
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: كان لقمان الحكيم أسود من سودان مصر.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن عكرِمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا.
حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرنا أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا عبد الرحمن بن حرملة، قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأل، فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بِلال، ومهجِّع مولى عمر بن الخطاب، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي الأشهب، عن خالد الربعي، قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا، فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، قال: أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما، فقال له لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، قال: كان لقمان عبدا أسود، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل، وهو في مجلس أناس يحدّثهم، فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقمانَ الحِكْمَةَ) قال: القرآن.
قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الحكمة: الأمانة.
وقال آخرون: كان نبيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرِمة، قال: كان لقمان نبيا.
وقوله: (أنِ اشْكُرْ لِلهِ) يقول تعالى ذكره: (ولقد آتينا لقمان الحكمة)، أن احمد الله على ما آتاك من فضله، وجعل قوله: (أنِ اشكُرْ) ترجمة عن الحكمة؛ لأن من الحكمة التي كان أوتيها، كان شكره الله على ما آتَاهُ، وقوله: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) يقول: ومن يشكر الله على نعمه عنده فإنما يشكر لنفسه، لأن الله يجزل له على شكره إياه الثواب، وينقذه به من الهلكة (وَمَن كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يقول: ومن كفر نعمة الله عليه إلى نفسه أساء؛ لأن الله معاقبه على كفرانه إياه، والله غنيّ عن شكره إياه على نعمه، لا حاجة به إليه، لأن شكره إياه لا يزيد في سلطانه، ولا ينقص كفرانه إياه من ملكه. ويعني بقوله: (حَمِيدٌ) محمود على كلّ حال، له الحمد على نعمه، كفر العبد نعمته أو شكره عليها، وهو مصروف من مفعول إلى فعيل.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) يقول: لخطأ من القول عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
يقول تعالى ذكره: وأمرنا الإنسان ببرّ والديه (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) يقول: ضعفا على ضعف، وشدّة على شدّة، ومنه قول زهير:
فَلَــنْ يَقُولُـوا بِحَـبْلٍ وَاهِـنٍ خَـلَقٍ
لَـوْ كـانَ قَـوْمُكَ فِـي أسْـبابِه هَلَكُوا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا في المعني بذلك، فقال بعضهم: عنى به الحمل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ) يقول: شدّة بعد شدّة، وخلقا بعد خلق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) يقول: ضعفا على ضعف.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) أي جهدا على جهد.
وقال آخرون: بل عنى به: وهن الولد وضعفه على ضعف الأمّ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَهْنًا عًلى وَهْنٍ) قال: وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها.
وقوله: (وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ) يقول: وفطامه في انقضاء عامين. وقيل: (وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ) وترك ذكر انقضاء اكتفاء بدلالة الكلام عليه، كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا يراد به أهل القرية.
وقوله: (أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) يقول: وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك، ولوالديك تربيتهما إياك، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك. وقوله: (إليَّ المَصِيرُ) يقول: إلى الله مصيرك أيها الإنسان، وهو سائلك عما كان من شكرك له على نعمه عليك، وعما كان من شكرك لوالديك، وبرّك بهما على ما لقيا منك من العناء والمشقة في حال طفوليتك وصباك، وما اصطنعا إليك في برّهما بك، وتحننهما عليك.
وذُكر أن هذه الآية نـزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه.
ذكر الرواية الواردة في ذلك:
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، قال: حلفت أمّ سعد أن لا تأكل ولا تشرب، حتى يتحوّل سعد عن دينه، قال: فأبى عليها، فلم تزل كذلك حتى غشي عليها، قال: فأتاها بنوها فسقوها، قال: فلما أفاقت دعت الله عليه، فنـزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) إلى قوله: فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قالت أمّ سعد لسعد: أليس الله قد أمر بالبرّ، فوالله، لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا، ثم أوجروها، فنـزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن سماك بن حرب، قال: قال سعد بن مالك: نـزلت فيّ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا قال: لما أسلمت، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، قال: فناشدتها أوّل يوم، فأبت وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها، فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله، لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا، فلما رأت ذلك، وعرفت أني لست فاعلا أكلت.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت أبا هبيرة يقول: قال: نـزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ... الآية.
--------------------
الهوامش :
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى (مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص 245). وقبل البيت بيت مرتبط به ارتباط السؤال بالجواب قال:
هَــلا سـأَلتَ بنـي الصَّيْـدَاءِ كُـلِّهِمِ
بِــأَيّ حَـبْلِ جِـوَارٍ كُـنْتُ أمْتَسِـكُ
ومعنى بيت الشاهد: هو حبل شديد محكم، فمن تمسك به نجا، وليس بحبل ضعيف، من تعلق بأسبابه هلك. قالوا: وكان الحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد، أغار على بني عبد الله بن غطفان، فغنم، واستاق إبل زهير وراعيه يسارًا فخاطبه زهير بهذه القصيدة، وذكره بأنه كان في عهده وجواره، وأنه إن لم يرد عليه الإبل والراعي فإنه سيقول فيه من قصائد الهجو ما يفضحه في أحياء العرب. وقال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى: (وهنًا على وهنٍ): أي ضعفًا إلى ضعفها. واستشهد بالبيت. ا هـ . وفيه الواهي بمعنى: الضعيف.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
يقول تعالى ذكره: وإن جاهدك أيها الإنسان، والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري، مما لا تعلم أنه لي شريك، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي، (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا) يقول: وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه، فيما بينك وبين ربك ولا إثم.
وقوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليَّ) يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ) أي: من أقبل إليّ.
وقوله: (إليَّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم، فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ، ثم أجازيكم على أعمالكم، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.
فإن قال لنا قائل: ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه؟ قيل: ذلك أيضا وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه، فكان معنى الكلام: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ولا تطع في الشرك به والديك (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفا) فإن الله وصّى بهما، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله، وفيه هذا المعنى، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته.