مدنية .
( سورة ) أي : هذه سورة ، ( أنزلناها وفرضناها ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " وفرضناها " بتشديد الراء ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها . وقيل : معناه قدرنا ما فيها من الحدود . والفرض : التقدير . قال الله - عز وجل - : " فنصف ما فرضتم ( البقرة - 237 ) أي : قدرتم ، ودليل التخفيف قوله - عز وجل - : " إن الذي فرض عليك القرآن " ( القصص - 85 ) وأما التشديد فمعناه : وفصلناه وبيناه . وقيل : هو بمعنى الفرض الذي هو بمعنى الإيجاب أيضا . والتشديد للتكثير لكثرة ما فيها من الفرائض ، أي : أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة . ( وأنزلنا فيها آيات بينات ) واضحات ، ( لعلكم تذكرون ) تتعظون .
قوله - عز وجل - : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) أراد إذا كانا حرين بالغين عاقلين بكرين غير محصنين " فاجلدوا " : فاضربوا كل واحد منهما مائة جلدة ، يقال جلده إذا ضرب جلده ، كما يقال رأسه وبطنه ، إذا ضرب رأسه وبطنه ، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح . ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم ، وقد وردت السنة أنه يجلد مائة ويغرب عاما وهو قول أكثر أهل العلم ، وإن كان الزاني محصنا فعليه الرجم ، ذكرناه في سورة النساء .
( ولا تأخذكم بهما رأفة ) رحمة ورقة ، وقرأ ابن كثير " رأفة " بفتح الهمزة ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لمجاورة قوله : " ورحمة " والرأفة معنى في القلب ، لا ينهى عنه ؛ لأنه لا يكون باختيار الإنسان .
روي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت ، فقال للجلاد : اضرب ظهرها ورجليها ، فقال له ابنه : لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، فقال يا بني إن الله - عز وجل - لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت .
واختلفوا في معنى الآية . فقال قوم : لا تأخذكم بهما رأفة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي . وقال جماعة : معناها ولا تأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضربا ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن . قال الزهري : يجتهد في حد الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب . وقال قتادة : يجتهد في حد الزنا ويخفف في الشرب والفرية .
( في دين الله ) أي : في حكم الله ، ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) معناه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله تعالى .
( وليشهد ) وليحضر ( عذابهما ) حدهما إذا أقيم عليهما ( طائفة ) نفر ، ( من المؤمنين ) قال مجاهد والنخعي : أقله رجل واحد فما فوقه ، وقال عكرمة وعطاء : رجلان فصاعدا . وقال الزهري وقتادة : ثلاثة فصاعدا . وقال مالك وابن زيد : أربعة بعدد شهود الزنا .
قوله - عز وجل - : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها . فقال قوم : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب أناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ( وحرم ذلك على المؤمنين ) أن يتزوجوا تلك البغايا ؛ لأنهن كن مشركات . وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس .
وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة والمدينة ، منهن تسع لهن رايات كرايات البيطار يعرفن بها . منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية .
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، وكانت بمكة بغي يقال لها : عناق ، وكانت صديقة له في الجاهلية ، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها ، فقال مرثد : إن الله حرم الزنا . قالت : فانكحني ، فقال : حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد شيئا ، فنزلت : ( والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) فدعاني فقرأها علي وقال لي : لا تنكحها . فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصا في حق أولئك دون سائر الناس .
وقال قوم : المراد من النكاح هو الجماع ، ومعناه : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة ، والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك . وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم . ورواية الوالبي عن ابن عباس . قال يزيد بن هارون : إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك ، وإن جامعها وهو محرم فهو زان ، وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول : إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان أبدا . وقال الحسن : الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة ، والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود . قال سعيد بن المسيب وجماعة : إن حكم الآية منسوخ ، فكان نكاح الزانية حراما بهذه الآية فنسخها قوله تعالى : " وأنكحوا الأيامى منكم " فدخلت الزانية في أيامى المسلمين .
واحتج من جوز نكاح الزانية بما أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، أخبرنا الحسن بن فرج ، أخبرنا عمرو بن خالد الحراني ، أخبرنا عبيد الله عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تدفع يد لامس ؟ قال : طلقها ، قال : فإني أحبها وهي جميلة ، قال : استمتع بها . وفي رواية غيره " فأمسكها إذا " .
وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنى وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام .
قوله - عز وجل - : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أراد بالرمي القذف بالزنا . وكل من رمى محصنا أو محصنة بالزنا فقال له : زنيت أو يا زاني فيجب عليه جلد ثمانين جلدة ، إن كان حرا ، وإن كان عبدا فيجلد أربعين ، وإن كان المقذوف غير محصن ، فعلى القاذف التعزير .
وشرائط الإحصان خمسة : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنى ، حتى أن من زنى مرة في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف فلا حد عليه . فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ؛ لأن الحد الذي وجب عليه حد الفرية وقد ثبت صدقه .
وقوله : ( والذين يرمون المحصنات ) أي : يقذفون بالزنا المحصنات ، يعني المسلمات الحرائر العفائف ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) يشهدون على زناهن ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أي : اضربوهم ثمانين جلدة . ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون )
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة ، وفي حكم هذا الاستثناء . فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله ؛ لقوله تعالى : " إلا الذين تابوا " . وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ، ويزول عنه اسم الفسق . يروى ذلك عن ابن عباس وعمر . وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز 55 والزهري وبه قال مالك والشافعي .
وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي ، وقالوا : بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد .
قال الشافعي : وهو قبل أن يحد شر منه حين يحد ؛ لأن الحدود كفارات ، فكيف يردونها في أحسن حاليه ويقبلونها في شر حاليه . وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة ، وقال : الاستثناء يرجع إلى الكل .
وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط ، كالقصاص يسقط بالعفو ، ولا يسقط بالتوبة .
فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله ( أبدا ) ؟ .
قيل : معناه لا تقبل شهادته أبدا ما دام مصرا على قذفه ؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله . كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا : يراد ما دام كافرا .
قوله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) أي : يقذفون نساءهم ، ( ولم يكن لهم شهداء ) يشهدون على صحة ما قالوا ، ( إلا أنفسهم ) أي : غير أنفسهم ، ( فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " أربع شهادات " برفع العين على خبر الابتداء ، أي : فشهادة أحدهم التي تدرأ الحد أربع شهادات . وقرأ الآخرون بالنصب أي : فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين .
( والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ) قرأ نافع ويعقوب " أن " خفيفة وكذلك الثانية " لعنة الله " رفع ، ثم يعقوب قرأ " غضب " برفع ، وقرأ نافع " غضب " بكسر الضاد وفتح الباء على الماضي " الله " رفع . وقرأ الآخرون " أن " بالتشديد فيهما " لعنة " نصب ، " وغضب " بفتح الضاد على الاسم ، " الله " جر . وقرأ حفص عن عاصم " والخامسة " الثانية نصب ، أي : ويشهد الشهادة الخامسة . وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره في " أن " كالأولى .
وسبب نزول هذه الآية ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له : يا عاصم أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال له : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عاصم لعويمر ، لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر ، والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فجاء عويمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس ، فقال : يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها " . فقال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال مالك قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين .
وقال محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا الأوزاعي ، أخبرنا الزهري بهذا الإسناد بمثل معناه . وزاد : ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين ، خدلج الساقين ، فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها ، وإن جاءت به أحيمر كأنه [ وجوه ] فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها " فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أحمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا ابن أبي عدي ، عن هشام بن حسان ، أخبرنا عكرمة ، عن ابن عباس ، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " البينة أو حد في ظهرك " فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البينة وإلا حد في ظهرك " فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه : ( والذين يرمون أزواجهم ) فقرأ حتى بلغ ( إن كان من الصادقين ) فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها : موجبة . قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الإليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء " فجاءت به كذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " .
وروى عكرمة عن ابن عباس : قال لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية . قال سعد بن عبادة : لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما قال سيدكم " ؟ قالوا : لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها . فقال سعد : يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإن الله يأبى إلا ذلك " فقال صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له ، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أتاه به ، وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق وما قلت إلا حقا ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا ، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه . فقال : واجتمعت الأنصار فقالوا ابتلينا بما قال سعد ، يجلد هلال وتبطل شهادته ، وإنهم لكذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه ، إذ نزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل عليه ، حتى فرغ ، فأنزل الله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) إلى آخر الآيات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا " فقال : لقد كنت أرجو ذلك من الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسلوا إليها ، فجاءت ، فلما اجتمعا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل لها فكذبت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ فقال هلال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قد صدقت وما قلت إلا حقا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعنوا بينهما ، فقيل لهلال : اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال له عند الخامسة : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشهد الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قال للمرأة : اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فقال لها عند الخامسة ووقفها : اتقي الله فإن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى بأن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه " ، فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق ، على الشبه المكروه ، وكان بعد أميرا على مصر ، لا يدري من أبوه .
وقال ابن عباس في سائر الروايات ، ومقاتل : لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : جعلني الله فداك ، إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين جلدة ، وسماه المسلمون فاسقا ، ولا تقبل شهادته أبدا ، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل فرغ من حاجته ومر ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر ، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن ، فأتى عويمر عاصما وقال : لقد رأيت شريك بن السمحاء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم ، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة الأخرى ، فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي ، فأخبره وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بني عم عاصم ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم جميعا ، وقال لعويمر : " اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها بالبهتان " فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غيري ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمرأة : " اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت " فقالت : يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور ، وإنه رآني وشريكا يطيل السمر ونتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشريك : " ما تقول " ؟ فقال : ما تقوله المرأة كذب ، فأنزل الله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) الآية ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نودي الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم ، فقام فقال : أشهد بالله بأن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية أشهد أني رأيت شريكا على بطنها ، وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر - يعني نفسه - إن كان من الكاذبين فيما قال ، ثم أمره بالقعود ، وقال لخولة : قومي فقامت ، فقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثانية أشهد بالله أنه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الرابعة أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الخامسة غضب الله على خولة - تعني نفسها - إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقال لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي ، ثم قال : " تحينوا بها الولادة فإن جاءت به [ أصيهب ] [ أثيبج ] يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به " . قال ابن عباس فجاءت بأشبه خلق الله بشريك .
والكلام في حكم الآية : أن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبي في وجوب الحد عليه إن كانت محصنة ، أو التعزير إن لم تكن محصنة ، غير أن المخرج منهما مختلف; فإذا قذف أجنبيا يقام الحد عليه ، إلا أن يقيم أربعة من الشهود على زناه ، أو يقر به المقذوف فيسقط عنه حد القذف ، وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن يسقط عنه الحد ، فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة ، لأن الرجل إذا رأى مع امرأته رجلا ربما لا يمكنه إقامة البينة عليه ولا يمكنه الصبر على العار ، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه ، فقال تعالى : " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " ، وإذا أقام الزوج البينة على زناها أو اعترفت بالزنا سقط عنه الحد واللعان ، إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه .
وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما يبدأ فيقيم الرجل ويلقنه كلمات اللعان ، فيقول : قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة بالزنا ، وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه بعينه باللعان ، وإن رماها بجماعة سماهم ، ويقول الزوج كما يلقنه الإمام ، وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول : وإن هذا الولد أو الحمل لمن الزنا ما هو مني ، ويقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة ، وإذا أتى بكلمة منها من غير تلقين الحاكم لا تكون محسوبة ، فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين زوجته وحرمت عليه على التأبيد ، وانتفى عنه النسب وسقط عنه حد القذف ، ووجب على المرأة حد الزنا ، إن كانت محصنة ترجم ، وإن كانت غير محصنة تجلد وتغرب ، فهذه خمسة أحكام تتعلق كلها بلعان الزوج .
قوله - عز وجل - : ( ويدرأ ) يدفع ، ( عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين)
( والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) وأراد بالعذاب الحد ، كما قال في أول السورة : " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " أي : حدهما ، ومعنى الآية : أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا ، وإذا وجب عليها حد الزنا بلعانه فأرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن ، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به .
ولا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها ، ولو أقام الزوج بينة على زناها فلا يسقط الحد عنها باللعان . وعند أصحاب الرأي : لا حد على من قذف زوجته ، بل موجبه اللعان ، فإن لم يلاعن يحبس حتى يلاعن ، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة عن اللعان حبست حتى تلاعن .
وعند الآخرين اللعان حجة على صدقه ، والقاذف إذا قعد عن إقامة الحجة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة .
وعند أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب ، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعا ، وقضاء القاضي .
وفرقة اللعان فرقة فسخ عند كثير من أهل العلم وبه قال الشافعي ، وتلك الفرقة متأبدة حتى لو كذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه دون ما له ، فيلزمه الحد ويلحقه الولد ولكن لا يرتفع تأبيد التحريم .
وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا كذب الزوج نفسه جاز له أن ينكحها . وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم . وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل في تعلق الحكم به .
وكل من صح يمينه صح لعانه حرا أو عبدا ، مسلما أو ذميا ، وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن ، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم . وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين ، فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما .
وظاهر القرآن حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ، لأن الله تعالى قال : ( والذين يرمون أزواجهم ) ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره كما قال : " الذين يظاهرون منكم من نسائهم " ( المجادلة - 2 ) ، ثم يستوي الحر والعبد هنا في الظهار ، ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو خليفته .
ويغلظ اللعان بأربعة أشياء : بعدد الألفاظ ، والمكان ، والزمان ، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس . أما الألفاظ المستحقة فلا يجوز الإخلال بها ، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وفي سائر البلاد ففي المسجد الجامع عند المنبر ، والزمان هو أن يكون بعد صلاة العصر ، وأما الجمع فأقلهم أربعة ، والتغليظ بالجمع مستحب ، حتى لو لاعن الحاكم بينهما وحده [ جاز ] ، وهل التغليظ بالمكان والزمان واجب أو مستحب فيه قولان .
قوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) جواب لولا محذوف ، يعني لعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان ، وإن الله تواب يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة ، حكيم فيما فرض من الحدود .
قوله - عز وجل - : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) الآيات سبب نزول هذه الآية ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله أخبرنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا .
قالوا : قالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه وأيهن خرج سهمها خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - معه قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه . قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول .
قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول ، قال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه .
وقال عروة أيضا : لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة ، كما قال الله تعالى ( والذي تولى كبره ) قال : عبد الله بن أبي ابن سلول
قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول : إنه الذي قال :
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا .
قالت : فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت فقلت : ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، قالت فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ فقالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت فقلت : سبحان الله أولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل [ بنوم ] ، ثم أصبحت أبكي .
قالت : ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة ، فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله .
قالت : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ من يومه ] فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر ، فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي ، قالت : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت .
قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم [ قالت وأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ] ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينا أبواي جالسان عندي ، وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي .
قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه .
قالت : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته فاض دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، فقال أبي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف حين قال : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " ( يوسف - 18 ) ثم تحولت واضطجعت على فراشي وأنا أعلم والله يعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان ، وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : يا عائشة أما والله فقد برأك الله ، قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله ، قالت : وأنزل الله تعالى : " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم " العشر الآيات ، فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى قوله ( غفور رحيم ) قال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .
قالت عائشة : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا ، قالت عائشة وهي التي تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع ، قالت : وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك .
قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط . قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله .
ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناد مثله ، وقال : وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ، إلى قوله : فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .
ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ولقد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي فسأل عني خادمتي ، فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، فقال : اصدقي رسول الله حتى أسقطوا لهابه ، فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وفيه قالت : وأنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول : أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك فقال لي أبواي : قومي إليه فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمد أحدا ولكن أحمد الله الذي برأني لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه .
أما تفسير قوله : ( إن الذين جاءوا بالإفك ) بالكذب ، والإفك : أسوأ الكذب ، سمي إفكا لكونه مصروفا عن الحق ، من قولهم : أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه ، ( عصبة منكم ) أي : جماعة منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، زوجة طلحة بن عبيد الله ، وغيرهم ، ( لا تحسبوه شرا لكم ) يا عائشة ويا صفوان ، وقيل : هو خطاب لعائشة ولأبويها وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصفوان ، يعني : لا تحسبوا الإفك شرا لكم ، ( بل هو خير لكم ) لأن الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم .
( لكل امرئ منهم ) يعني من العصبة الكاذبة ( ما اكتسب من الإثم ) أي : جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه ، ( والذي تولى كبره ) أي : تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، قرأ يعقوب " كبره " بضم الكاف ، وقرأ العامة بالكسر ، قال الكسائي : هما لغتان . قال الضحاك : قام بإشاعة الحديث ، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول .
وروى الزهري عن عروة عن عائشة ( والذي تولى كبره منهم ) قالت : عبد الله بن أبي ابن سلول ، والعذاب الأليم هو النار في الآخرة .
وقد روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي ، رئيسهم : من هذه ؟ قالوا : عائشة قال : والله ما نجت منه وما نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها . وشرع في ذلك أيضا حسان ، ومسطح ، وحمنة ، فهم الذين تولوا كبره .
وقال قوم : هو حسان بن ثابت . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا بشر بن خالد ، أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق قال : دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعرا يشبب بأبيات له ، وقال :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وقالت : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعا ثمانين ثمانين .
قوله - عز وجل - : ( لولا ) هلا ( إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ) بإخوانهم ( خيرا ) قال الحسن : بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة ، نظيره قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ( النساء - 29 ) فسلموا على أنفسكم ( النور - 61 ) . ( وقالوا هذا إفك مبين ) أي كذب بين .
( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) أي : على ما زعموا ، ( فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) فإن قيل : كيف يصيرون عند الله كاذبين إذ لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت ؟ قيل : " عند الله " أي : في حكم الله وقيل : معناه كذبوهم بأمر الله وقيل : هذا في حق عائشة ، ومعناه : أولئك هم الكاذبون في غيبي وعلمي .
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم ) خضتم ( فيه ) من الإفك ( عذاب عظيم ) قال ابن عباس أي : عذاب لا انقطاع له ، يعني : في الآخرة ، لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل ، فقال تعالى : " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " ، وقد أصابه ، فإنه جلد وحد . وروت عمرة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية حد أربعة نفر : عبد الله بن أبي ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش .
قوله - عز وجل - : ( إذ تلقونه ) تقولونه ، ( بألسنتكم ) قال مجاهد ومقاتل : يرويه بعضكم عن بعض . وقال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقيا ، وقال الزجاج : يلقيه بعضكم إلى بعض ، وقرأت عائشة " تلقونه " بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق وهو الكذب ، ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا ) تظنون أنه سهل لا إثم فيه ، ( وهو عند الله عظيم ) في الوزر .