تفسير
طه
1
القول في تأويل قوله تعالى : طه (1)
قال أبو جعفر محمد بن جرير: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله (طَهَ) فقال بعضهم: معناه يا رجل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: طه: بالنبطية: يا رجل.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس.
قوله ( طه مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) فإن قومه قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنـزل الله تعالى ذكره (طَهَ) يعني: يا رجل ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن مسلم، أو يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير أنه قال: طه: يا رجل بالسريانية.
قال ابن جريج: وأخبرني زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، بذلك أيضا. قال ابن جُرَيج، وقال مجاهد، ذلك أيضا.
حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا عمارة عن عكرمة، في قوله (طَهَ) قال: يا رجل، كلمه بالنبطية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الله، عن عكرمة، في قوله (طَهَ) قال: بالنبطية: يا إنسان.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، عن الضحاك، في قوله (طَهَ) قال: يا رجل بالنبطية.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حُصين، عن عكرمة في قوله (طَهَ) قال: يا رجل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (طَهَ) قال: يا رجل، وهي بالسريانية.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله (طَهَ) قالا يا رجل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، يعني ابن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (طَهَ) قال: يا رجل.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء الله، وقسم أقسم الله به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (طَهَ) قال: فإنه قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال آخرون: هو حروف مقطعة يدلّ كلّ حرف منها على معنى، واختلفوا في ذلك اختلافهم في الم .
وقد ذكرنا ذلك في مواضعه، وبيَّنا ذلك بشواهده.
والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال: معناه: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في عكَّ فيما بلغني، وأن معناها فيهم: يا رجل، أنشدت لمتمم بن نويرة:
هَتَفْـتُ بِطَـهَ فِـي القِتـالِ فَلَـمْ يُجِبْ
فَخِــفْتُ عَلَيْــهِ أنْ يَكـونَ مُـوَائِلا (3)
وقال آخر:
إنَّ السَّــفاهَةَ طَــهَ مِـنْ خَـلائِقكُمْ
لا بـارَكَ اللـهُ فِـي القَـوْمِ المَلاعِينِ (4)
فإذا كان ذلك معروفا فيهم على ما ذكرنا، فالواجب أن يوجه تأويله إلى المعروف فيهم من معناه، ولا سيما إذا وافق ذلك تأويل أهل العلم من الصحابة والتابعين.
فتأويل الكلام إذن: يا رجل ما أنـزلنا عليك القرآن لتشقى، ما أنـزلناه عليك فنكلفك ما لا طاقة لك به من العمل، وذُكِر أنه قيل له ذلك بسبب ما كان يلقى من النَّصب والعناء والسهر في قيام الليل.
* ذكر من قال ذلك:
---------------------------------
الهوامش :
(3) البيت لمتمم بن نويرة كما قال المؤلف . وفيه ( اللسان : طهطه ) : الليث في تفسير ( طه ) مجزومة أنها بالحبشية : يا رجل ، قال : ومن قرأ ( طه ) فحرفان . وبلغنا أن موسى لما سمع كلام الرب عز وجل استفزه الخوف ، حتى قام على أصابع قدميه خوفا ، فقال الله عز وجل : ( طه ) أي اطمئن . الفراء : ( طه ) حرف هجاء . قال : وجاء في التفسير ( طه ) يا رجل : يا إنسان . قال : وحدث قيس عن عاصم عن زر ، قال : قرأ رجل على ابن مسعود ( طه فقال له عبد الله : ( طه ) بكسرتين ، فقال الرجل : أليس إنما أمر أن يطأ قدمه ، فقال له عبد الله : هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الفراء : وكان بعض القراء يقطعها ( ط . هـ ) وروى الأزهري عن أبي حاتم قال : ( طه ) : افتتاح سورة ، ثم استقبل الكلام فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . وقال قتادة : ( طه ) بالسريانية : يا رجل . وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هي بالنبطية : يا رجل ، وروي ذلك عن ابن عباس . أه . ( اللسان ) .
(4) هذا الشاهد كالذي قبله ، على أن معنى ( طه ) في كلام العرب : يا رجل ولم أقف على قائل البيت .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال: هي مثل قوله فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فكانوا يعلقون الحبال في صدورهم في الصلاة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) قال: في الصلاة كقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) لا والله ما جعله الله شقيا، ولكن جعله رحمة ونورا، ودليلا إلى الجنة.
وقوله ( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) يقول تعالى ذكره: ما أنـزلنا عليك هذا القرآن إلا تذكرة لمن يخشى عقاب الله، فيتقيه بأداء فرائض ربه واجتناب محارمه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) وإن الله أنـزل كتبه، وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد، ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر له أنـزل الله فيه حلاله وحرامه، فقال تَنْـزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ) قال: الذي أنـزلناه عليك تذكرة لمن يخشى.
فمعنى الكلام إذن: يا رجل ما أنـزلنا عليك هذا القرآن لتشقى به، ما أنـزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب تذكرة، فكان بعض نحويي البصرة يقول: قال: إلا تذكرة بدلا من قوله لتشقى، فجعله: ما أنـزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، وكان بعض نحويي الكوفة يقول: نصبت على قوله: ما أنـزلناه إلا تذكرة، وكان بعضهم ينكر قول القائل: نصبت بدلا من قوله (لِتَشْقَى) ويقول: ذلك غير جائز، لأن (لِتَشْقَى) في الجحد، و ( إِلا تَذْكِرَةً ) في التحقيق، ولكنه تكرير، وكان بعضهم يقول: معنى الكلام: ما أنـزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى، لا لتشقى.
القول في تأويل قوله تعالى : تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القرآن تنـزيل من الربّ الذي خلق الأرض والسموات العلى ، والعُلَى: جمع عليا.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (تَنـزيلا) فقال بعض نحويي البصرة: نصب ذلك بمعنى: نـزل الله تنـزيلا وقال بعض من أنكر ذلك من قيله هذا من كلامين، ولكن المعنى: هو تنـزيل، ثم أسقط هو، واتصل بالكلام الذي قبله، فخرج منه، ولم يكن من لفظه.
قال أبو جعفر: والقولان جميعا عندي غير خطأ.
وقوله ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) يقول تعالى ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا.
وقد بيَّنا معنى الاستواء بشواهده فيما مضى وذكرنا اختلاف المختلفين فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وللرفع في الرحمن وجهان: أحدهما بمعنى قوله: تنـزيلا فيكون معنى الكلام: نـزله من خلق الأرض والسموات، نـزله الرحمن الذي على العرش استوى ، والآخر بقوله ( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) لأن في قوله استوى، ذكرا من الرحمن.
القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
يقول تعالى ذكره: لله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، ملكا له، وهو مدبر ذلك كله، ومصرّف جميعه. ويعني بالثرى: الندى.
يقال للتراب الرطب المبتلّ: ثرى منقوص، يقال منه: ثريت الأرض تثرى، ثرى منقوص، والثرى: مصدر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) والثَّرَى: كلّ شيء مبتلّ.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) ما حفر من التراب مبتلا وإنما عنى بذلك: وما تحت الأرضين السبع.
كالذي حدثني محمد بن إبراهيم السليمي المعروف بابن صدران (5) . قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا محمد بن رفاعة، عن محمد بن كعب ( وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) قال: الثرى: سبع أرضين.
-----------------------------
الهوامش :
(5) في الخلاصة للخزرجي : محمد بن إبراهيم بن صدران بضم المهملة الأولى ، الأزدي ، بتحتانية بعد اللام المكسورة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
يقول تعالى ذكره: وإن تجهر يا محمد بالقول، أو تخف به، فسواء عند ربك الذي له ما في السموات وما في الأرض ( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ ) يقول: فإنه لا يخفى عليه ما استسررته في نفسك، فلم تبده بجوارحك ولم تتكلم بلسانك، ولم تنطق به وأخفى.
ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله (وأخْفَى) فقال بعضهم: معناه:
وأخفى من السرّ، قال: والذي هو أخفى من السرّ ما حدّث به المرء نفسه ولم يعمله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما عملته أنت وأخفى: ما قذف الله في قلبك مما لم تعمله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) يعني بأخفى: ما لم يعمله، وهو عامله; وأما السرّ: فيعني ما أسرّ في نفسه.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما أسرّ ابن آدم في نفسه، وأخفى: قال: ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله، فالله يعلم ذلك، فعلمه فيما مضى من ذلك، وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة، وهو قوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: السرّ: ما أسرّ الإنسان في نفسه; وأخفى: ما لا يعلم الإنسان مما هو كائن.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو، قالا ثنا أبو عاصم، عن عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: أخفى: الوسوسة، زاد ابن عمرو والحارث في حديثيهما: والسرّ: العمل الذي يسرّون من الناس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وأخْفَى) قال: الوسوسة.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: أخفى حديث نفسك.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما يكون في نفسك اليوم، وأخفى: ما يكون في غد وبعد غد، لا يعلمه إلا الله.
وقال آخرون: بل معناه: وأخفى من السرّ ما لم تحدّث به نفسك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الفضل بن الصباح، قال: ثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: السرّ: ما أسررت في نفسك، وأخفى من ذلك: ما لم تحدّث به نفسك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) كنا نحدّث أن السرّ ما حدّثت به نفسك، وأن أخفى من السرّ: ما هو كائن مما لم تحدث به نفسك.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال، قال: ثنا قتادة، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: يعلم ما أسررت في نفسك، وأخفى: ما لم يكن هو كائن.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: أخفى من السرّ: ما حدّثت به نفسك، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) أما السرّ: فما أسررت في نفسك، وأما أخفى من السرّ: فما لم تعمله وأنت عامله، يعلم الله ذلك كله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه يعلم سرّ العباد، وأخفى سرّ نفسه، فلم يطلع عليه أحدا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) قال: يعلم أسرار العباد، وأخفى سرّه فلا يعلم.
قال أبو جعفر: وكأن الذين وجهَّوا ذلك إلى أن السرّ هو ما حدّث به الإنسان غيره سرّا، وأن أخفى: معناه: ما حدّث به نفسه، وجهوا تأويل أخفى إلى الخفيّ. وقال بعضهم: قد توضع أفعل موضع الفاعل، واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر:
تَمَنَّـى رِجـالٌ أنْ أمُـوتَ وإنْ أمُـتْ
فَتِلْـكَ طَـرِيقٌ, لَسْـتُ فِيهـا بـأوْحَدِ (6)
والصواب من القول في ذلك، قول من قال: معناه: يعلم السرّ وأخفى من السرّ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام; ولو كان معنى ذلك ما تأوّله ابن زيد، لكان الكلام: وأخفى الله سرّه، لأن أخفى: فعل واقع متعدّ، إذ كان بمعنى فعل على ما تأوّله ابن زيد، وفي انفراد أخفى من مفعوله، والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل الدليل الواضح على أنه بمعنى أفعل. وأن تأويل الكلام: فإنه يعلم السرّ وأخفى منه. فإذا كان ذلك تأويله، فالصواب من القول في معنى أخفى من السرّ أن يقال: هو ما علم الله مما أخفى عن العباد، ولم يعلموه مما هو كائن ولم يكن، لأن ما ظهر وكان فغير سرّ، وأن ما لم يكن وهو غير كائن فلا شيء، وأن ما لم يكن وهو كائن فهو أخفى من السرّ، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، ثم من أعلمه ذلك من عباده.
---------------------------------
الهوامش :
(6) ورد هذا البيت في مقطوعة خمسة أبيات كتب بها الوليد بن عبد الملك لما مرض وقد بلغه عن أخيه سليمان أنه تمنى موته ، لما له من العهد بعده ، فعاتبه الوليد في كتابه وفيه هذه الأبيات ، وأولها : " تمنى رجال . . . إلخ " . ذكرها المسعودي في ( مروج الذهب ، طبعة دار الرجاء 3 : 103 ) والشاهد في قوله بأوحد ، فإنه بمعنى : بواحد .
وأما قوله تعالى ذكره ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) فإنه يعني به: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، يقول: فإياه فاعبدوا أيها الناس دون ما سواه من الآلهة والأوثان ( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) يقول جلّ ثناؤه: لمعبودكم أيها الناس الأسماء الحسنى، فقال: الحسنى، فوحَّد، وهو نعت للأسماء، ولم يقل الأحاسن، لأن الأسماء تقع عليها هذه، فيقال: هذه أسماء، وهذه في لفظة واحدة; ومنه قول الأعشى:
وَسَــوْفَ يُعْقِبُنِيـه إنْ ظَفِـرْت بِـهِ
رَبّ غَفُــورٌ وَبِيــضٌ ذاتُ أطْهـارِ (7)
فوحد ذات، وهو نعت للبيض لأنه يقع عليها هذه، كما قال حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ومنه قوله جلّ ثناؤه مَآرِبُ أُخْرَى فوحد أخرى، وهي نعت لمآرب، والمآرب: جمع، واحدتها: مأربة، ولم يقل أخر، لما وصفنا، ولو قيل: أخر، لكان صوابا.
----------------------
الهوامش :
(7) في ( اللسان : عقب ) يقال : أعقبه الله بإحسان وخيرا . والاسم العقبى ، وهو شبه العوض . واستعقب منه خيرا أو شرا : اعتاضه ، فأعقبه خيرا ، أي عوضه وأبدله . والشاهد في البيت أن قائله وصف البيض وهو جمع بيضاء ، بكلمة ( ذات ) وهي واحد ، ولم يطابق بين النعت والمنعوت في العدد . وتأويل ذلك عند المؤلف أنه كلمة البيض وإن كانت جمعا فإنها يشار إليها بكلمة هذه وهذه في الأصل إشارة للواحدة فلما جاز أن يشار بهذه إلى الجمع جاز أن أن ينعت البيض بذات التي هي للواحدة ، وذلك نظير قول القرآن : " له الأسماء الحسنى" ، والأسماء جمع ، والحسنى صفتها وهي واحدة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسليه عما يلقى من الشدّة من مشركي قومه، ومعرفه ما إليه بصائر أمره وأمرهم، وأنه معليه عليهم، وموهن كيد الكافرين، ويحثه على الجدّ في أمره، والصبر على عبادته، وأن يتذكر فيما ينوبه فيه من أعدائه من مُشركي قومه وغيرهم، وفيما يزاول من الاجتهاد في طاعته ما ناب أخاه موسى صلوات الله عليه من عدّوه، ثم من قومه، ومن بني إسرائيل وما لقي فيه من البلاء والشدة طفلا صغيرا، ثم يافعا مترعرعا، ثم رجلا كاملا( وَهَلْ أَتَاكَ ) يا محمد ( حَدِيثُ مُوسَى ) ابن عمران
( إِذْ رَأَى نَارًا ) ذكر أن ذلك كان في الشتاء ليلا وأن موسى كان أضلّ الطريق; فلما رأى ضوء النار قَالَ لأَهْلِهِ ما قال.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما قضى موسى الأجل، سار بأهله فضلّ الطريق. قال عبد الله بن عباس: كان في الشتاء، ورُفعت لهم نار، فلما رآها ظنّ أنها نار، وكانت من نور الله قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه اليماني، قال: لما قضى موسى الأجل، خرج ومعه غنم له، ومعه زند له، وعصاه في يده يهشّ بها على غنمه نهارا، فإذا أمسى اقتدح بزنده نارا، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بأهله وبغنمه، فتوكأ على عصاه، فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامته، وابتداءه فيها بنبوّته وكلامه، أخطأ فيه الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده ليقتدح نارا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد زنده فلا يوري له نارا، فقدح حتى أعياه، لاحت (8) النار فرآها، ( فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ). وعني بقوله: ( آنَسْتُ نَارًا ) وجدت، ومن أمثال العرب: بعد اطلاع إيناس، ويقال أيضا: بعد طلوع إيناس، وهو مأخوذ من الأنس.
وقوله ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ) يقول: لعلي أجيئكم من النار التي آنست بشعلة.
والقَبَس: هو النار في طَرَف العود أو القصبة ، يقول القائل لصاحبه: أقبسني نارا، فيعطيه إياها في طرف عود أو قصبة ، وإنما أراد موسى بقوله لأهله ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ) لعلي آتيكم بذلك لتصطلوا به.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ ) قال: بقبس تَصْطَلون.
وقوله ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) دلالة تدلّ على الطريق الذي أضللناه، إما من خبر هاد يهدينا إليه، وإما من بيان وعلم نتبينه به ونعرفه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) يقول: من يدلّ على الطريق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال: هاديا يهديه الطريق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة قوله ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) أي هداة يهدونه الطريق.
حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أبي يحدّث، عن قتادة، عن صاحب له، عن حديث ابن عباس، أنه زعم أنها أيلة ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) وقال أبي: وزعم قتادة أنه هدى الطريق.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال: من يهديني إلى الطريق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال: هدى عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) قال: كانوا أضلوا عن الطريق، فقال: لعلي أجد من يدلني على الطريق، أو آتيكم بقبس لعلكم تصطلون.
-----------------------
الهوامش :
(8) المقام يقتضي أن يقول : حتى إذا أعياه ، لاحت . . . إلخ أو : فلاحت ، ثم لاحت .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
يقول تعالى ذكره: فلما أتى النار موسى، ناداه ربه (يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ).
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه، قال: خرج موسى نحوها، يعني نحو النار، فإذا هي في شجر من العليق، وبعض أهل الكتاب يقول في عوسجة، فلما دنا استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة; فلما أراد الرجعة، دنت منه ثم كلم من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، وقال الله تبارك وتعالى (يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) فخلعها فألفاها.
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه، فقال بعضهم: أمره بذلك، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت، فكره أن يطأ بهما الوادي المقدس، وأراد أن يمسه من بركة الوادي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي قلابة، عن كعب، أنه رآهم يخلعون نعالهم ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) فقال: كانت من جلد حمار ميت، فأراد الله أن يمسه القدس.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال: كانتا من جلد حمار ميت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعد، عن قتادة، قال: حدثنا، أن نعليه كانتا من جلد حمار، فخلعهما ثم أتاه.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال: كانتا من جلد حمار، فقيل له اخلعهما.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُريَج. قال: وأخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة وأبو سفيان، عن معمر، عن جابر الجعفي، عن عليّ بن أبي طالب ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) قال: كانتا من جلد حمار، فقيل له اخلعهما. قال: وقال قتادة مثل ذلك.
وقال آخرون: كانتا من جلد بقر، ولكن الله أراد أن يطأ موسى الأرض بقدميه، ليصل إليه بركتها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال الحسن: كانتا، يعني نعلي موسى من بقر، ولكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض، وكان قد قدس مرتين. قال ابن جُرَيْج: وقيل لمجاهد: زعموا أن نعليه كانتا من جلد حمار أو ميتة، قال: لا ولكنه أمر أن يباشر بقدميه بركة الأرض.
حدثني يعقوب، قال: قال أبو بشر، يعني ابن علية، سمعت ابن أبي نجيح، يقول في قوله: ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال: يقول: أفض بقدميك إلى بركة الوادي.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي، إذ كان واديا مقدسا.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لأنه لا دلالة في ظاهر التنـزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنجاستهما، ولا خبر بذلك عمن يلزم بقوله الحجة، وإن في قوله ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) بعقبه دليلا واضحا، على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا.
ولو كان الخبر الذي حدثنا به بشر قال: ثنا خلف بن خليفة عن حميد بن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: " يَوْمَ كَلَّمَ اللهُ مُوسَى، كانَتْ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وكساءُ صُوفٍ، و سَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَنَعْلانِ مِنْ جِلْدِ حِمارٍ غيرِ مُذَكّى " صحيحا لم نعده إلى غيره، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه.
واختلفت القراء في قراءة قوله ( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة ( نُودِيَ يا مُوسَى أنّي ) بفتح الألف من " أني"، فأنّ على قراءتهم في موضع رفع بقوله: نودي، فإن معناه: كان عندهم نودي هذا القول، وقرأه بعض عامة قرّاء المدينة والكوفة بالكسر: نودي يا موسى إني، على الابتداء، وأن معنى ذلك قيل: يا موسى إني.
قال أبو جعفر: والكسر أولى القراءتين عندنا بالصواب، وذلك أن النداء قد حال بينه وبين العمل في أن قوله " يا موسى "، وحظ قوله " نودي" أن يعمل في أن لو كانت قبل قوله " يا موسى "، وذلك أن يقال: نودي أن يا موسى إني أنا ربك، ولا حظ لها في " إن " التي بعد موسى.
وأما قوله ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) فإنه يقول: إنك بالوادي المطهر المبارك.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) يقول: المبارك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد، قوله ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال: قُدِّس بُورك مرّتين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قوله ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال: بالوادي المبارك.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله (طُوًى) فقال بعضهم: معناه: إنك بالوادي المقدس طويته، فعلى هذا القول من قولهم طوى مصدر خرج من غير لفظه، كأنه قال: طويت الوادي المقدس طوى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قوله ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) يعني الأرض المقدسة، وذلك أنه مرّ بواديها ليلا فطواه، يقال: طويت وادي كذا وكذا طوى من الليل، وارتفع إلى أعلى الوادي، وذلك نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: مرّتين، وقال: ناداه ربه مرّتين; فعلى قول هؤلاء طوى مصدر أيضا من غير لفظه، وذلك أن معناه عندهم: نودي يا موسى مرّتين نداءين ، وكان بعضهم ينشد شاهدا لقوله طوى، أنه بمعنى مرّتين، قول عديّ بن زيد العبادي:
أعـاذِل إنَّ اللَّـوْمَ فِـي غَـيْرِ كُنْهِـهِ
عَــليَّ طَـوَى مِـنْ غَيّـكِ المُـتَرَدّدِ (9)
وروى ذلك آخرون: " عليّ ثنى ": أي مرّة بعد أخرى، وقالوا: طوى وثنى بمعنى واحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) كنا نحدّث أنه واد قدّس مرّتين، وأن اسمه طُوًى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنه قدّس طوى مرّتين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال الحسن: كان قد قدِّس مرّتين.
وقال آخرون: بل طُوى: اسم الوادي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (طُوى) : اسم للوادي.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: طُوى: قال: اسم الوادي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال: ذاك الوادي هو طوى، حيث كان موسى، وحيث كان إليه من الله ما كان، قال: وهو نحو الطور.
وقال آخرون: بل هو أمر من الله لموسى أن يطأ الوادي بقدميه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا صالح بن إسحاق، عن جعفر بن برقان، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله تبارك وتعالى ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) قال: طأ الوادي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا الحسن، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله (طُوًى) قال: طأ الوادي.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن سعيد بن جبير، في قول الله (طُوًى) قال: طأ الأرض حافيا، كما تدخل الكعبة حافيا، يقول: من بركة الوادي.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (طُوًى) طأ الأرض حافيا.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة ( طُوَى) بضم الطاء وترك التنوين، كأنهم جعلوه اسم الأرض التي بها الوادي، كما قال الشاعر:
نَصَـــرُوا نَبِيَّهُــم وَشَــدُّوا أزْرَهُ
بحُــنْينَ حِــينَ تَــوَاكُلِ الأبْطـالِ (10)
فلم يجرّ حنين، لأنه جعله اسما للبلدة لا للوادي: ولو كان جعله اسما للوادي لأجراه كما قرأت القرّاء وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وكما قال الآخر:
ألَسْــنا أكْــرَمَ الثَّقَلَيْــنِ رَحْــلا
وأعْظَمَهُــمْ بِبَطْــنِ حــرَاءَ نـارَا (11)
فلم يجرّ حراء، وهو جبل، لأنه حمله اسما للبلدة، فكذلك طُوًى " في قراءة من لم يجره حمله اسما للأرض. وقرأ ذلك عامَّة قراء أهل الكوفة: (طُوى) بضم الطاء والتنوين; وقارئو ذلك كذلك مختلفون في معناه على ما قد ذكرت من اختلاف أهل التأويل; فأما من أراد به المصدر من طويت، فلا مؤنة في تنوينه، وأما من أراد أن يجعله اسما للوادي، فإنه إنما ينونه لأنه اسم ذكر لا مؤنث، وأن لام الفعل منه ياء، فزاده ذلك خفة فأجراه كما قال الله وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذ كان حنين اسم واد، والوادي مذكر.
قال أبو جعفر: وأولى القولين عندي بالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين، لأنه إن يكن اسما للوادي فحظه التنوين لما ذكر قبل من العلة لمن قال ذلك، وإن كان مصدرا أو مفسرا، فكذلك أيضا حكمه التنوين، وهو عندي اسم الوادي. وإذ كان ذلك كذلك، فهو في موضع خفض ردًّا على الوادي.
---------------------
الهوامش :
(9) البيت لعدي بن زيد ( اللسان : طوى ) . قال : وإذا كان طوى وطوى ( بكسر الطاء وضمها ) وهو الشيء المطوي مرتين ، فهو صفة بمنزلة ثني وثني ( بكسر الثاء وضمها ) ، وليس بعلم لشيء وهو مصروف لا غير ، كما قال عدي بن زيد : " أعاذل " إن اللوم . . البيت " ، ورأيت في حاشية نسخة من أمالي ابن بري أن الذي في شعر عدي : على ثنى من فيك ، أراد اللوم المكرر .
(10) البيت لحسان بن ثابت ( اللسان : حنن ) . والشاهد فيه أن حنين غير مصروف ، لأنه جعله اسما للبلدة ، كما قال المؤلف أو لبقة .
(11) البيت في ( اللسان : حرى ) قال الجوهري : لم يصرف حراء لأنه ذهب به إلى البلدة التي هو بها ، وفي الحديث " كان يتحنث بحراء " مصروفًا ، وهو جبل من جبال مكة ، وفي رواية اللسان : طرا ، في موضع ، رحلا
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة القرّاء الذين قرءوا " وأنَّا " بتشديد النون، و (أنا) بفتح الألف من " أنا " ردّا على: نودي يا موسى، كأن معنى الكلام عندهم: نودي يا موسى إني أنا ربك، وأنا اخترتك، وبهذه القراءة قرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة. وأما عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة فقرءوه: (وأنا اخْتَرْتُكَ) بتخفيف النون على وجه الخبر من الله عن نفسه أنه اختاره.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما قرّاء أهل العلم بالقرآن، مع اتفاق معنييهما، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه، وتأويل الكلام: نودي أنَّا اخترناك. فاجتبيناك لرسالتنا إلى من نرسلك إليه ( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) يقول: فاستمع لوحينا الذي نوحيه إليك وعه، واعمل به.
( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره: إنني أنا المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، لا إلَهَ إلا أنا فلا تعبد غيري، فإنه لا معبود تجوز أو تصلح له العبادة سواي (فاعْبُدْنِي) يقول: فأخلص العبادة لي دون كلّ ما عبد من دوني (وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: معنى ذلك: أقم الصلاة لي فإنك إذا أقمتها ذكرتني.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قال: إذا صلى ذكر ربه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قال: إذا ذكر عَبد ربه.
قال آخرون: بل معنى ذلك: وأقم الصلاة حين تذكرها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن مُغيرة، عن إبراهيم في قوله ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قال: يصليها حين يذكرها.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد الله بن وهب، قال: ثني يونس ومالك بن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّها إذَا ذَكَرَها ، قال الله ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) ". وكان الزهري يقرؤها: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) بمنـزلة فعلى.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: أقم الصلاة لتذكرني فيها، لأن ذلك أظهر معنييه، ولو كان معناه: حين تذكرها، لكان التنـزيل: أقم الصلاة لذكركها. وفي قوله: (لِذِكْرِي) دلالة بينة على صحة ما قال مجاهد في تأويل ذلك، ولو كانت القراءة التي ذكرناها عن الزهري قراءة مستفيضة في قراءة الأمصار، كان صحيحا تأويل من تأوّله بمعنى: أقم الصلاة حين تذكرها، وذلك أن الزهري وجَّه بقراءته ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) بالألف لا بالإضافة، إلى أقم لذكراها، لأن الهاء والألف حذفتا، وهما مرادتان في الكلام ليوفق بينها وبين سائر رءوس الآيات، إذ كانت بالألف والفتح. ولو قال قائل في قراءة الزهري هذه التي ذكرنا عنه، إنما قصد الزهري بفتحها تصييره الإضافة ألفا للتوفيق بينه وبين رءوس الآيات قبله وبعده، لأنه خالف بقراءته ذلك كذلك من قرأه بالإضافة، وقال: إنما ذلك كقول الشاعر:
أُطَــوّفُ مــا أُطَــوّفُ ثُـمَّ آوي
إلــــى (1) أمَّــا وَيُرْوِيني النَّقِــيعُ (2)
وهو يريد: إلى أمي، وكقول العرب: يا أبا وأما، وهي تريد: يا أبي وأمي، كان له بذلك مقال.
---------------------
الهوامش :
(1) في الأصل : إذ , ولعله تحريف عن " إلى " .
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصور الجامعة ص 196 ) قال : والعرب تقول : بيتًا وأما ، يريدون : بأبي وأمي ومثله ( يا ويلتا أعجزت ) وإن شئت جعلتها يا إضافة ، وإن شئت يا ندبة . أه . والنقيع والنقيعة : المحض من اللبن يبرد ، قال ابن بري : شاده قول الشاعر : " . . ويكفين النقيع " .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
يقول تعالى ذكره: إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) فعلى ضمّ الألف من أخفيها قراءة جميع قرّاء أمصار الإسلام، بمعنى: أكاد أخفيها من نفسي، لئلا يطلع عليها أحد، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) يقول: لا أظهر عليها أحدا غيري.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال: لا تأتيكم إلا بغتة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال: من نفسي.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال: من نفسي.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال: من نفسي.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا محمد بن عبيد الطنافسي، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال: يخفيها من نفسه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) وهي في بعض القراءة: أخفيها من نفسي. ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء المرسلين.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: في بعض الحروف: ( إنَّ السَّاعَةَ آتِيهٌ أَكَادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي).
وقال آخرون: إنما هو: ( أكادُ أَخْفِيها) بفتح الألف من أخفيها بمعنى: أظهرها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا محمد بن سهل، قال: سألني رجل في المسجد عن هذا البيت.
دَابَ شَــهْرَيْنِ ثُــمَّ شَـهْرًا دَمِيكًـا
بِـــأرِيكينِ يَخْفِيـــان غَمِـــيرًا (3)
فقلت: يظهران، فقال ورقاء بن إياس وهو خلفي: أقرأنيها سعيد بن جبير ( أكادُ أَخْفِيها) بنصب الألف ، وقد رُوي عن سعيد بن جبير وفاق لقول الآخرين الذين قالوا: معناه: أكاد أخفيها من نفسي.
* ذكر الرواية عنه بذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عطاء، عن سعيد بن جبير ومنصور، عن مجاهد، قالا( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قالا من نفسي.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال: من نفسي.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، قول من قال: معناه: أكاد أخفيها من نفسي، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء، والذي ذُكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلا مستفيضا.
فإن قال قائل: ولم وجهت تأويل قوله ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) بضم الألف إلى معنى: أكاد أخفيها من نفسي، دون توجيهه إلى معنى: أكاد أظهرها، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين: أحدهما الإظهار، والآخر الكتمان، وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه، إذ كان محالا أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم، والله تعالى ذكره لا يخفى عليه خافية؟ قيل: الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وإنما وجَّهنا معنى (أُخْفِيها) بضمّ الألف إلى معنى: أسترها من نفسي، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب: الستر. يقال: قد أخفيت الشيء: إذا سترته، وأن الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهار، اعتمدوا على بيت لامرئ القيس ابن عابس الكندي.
حُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال: أنشدنيه أبو الخطاب، عن أهله في بلده:
فــإنْ تُدْفِنُــوا الــدَّاءَ لا نُخْفِــهِ
وإنْ تَبْعَثُـــوا الحَــرْبَ لا نَقْعُــد (4)
بضمّ النون من لا نخفه، ومعناه: لا نظهره، فكان اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت، على ما وصفت من ضم النون من نخفه، وقد أنشدني الثقة عن الفرّاء:
فإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ
بفتح النون من نخفه، من خفيته أخفيه، وهو أولى بالصواب لأنه المعروف من كلام العرب.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان الفتح في الألف من أخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا، ثبت وصحّ الوجه الآخر، وهو أن معنى ذلك. أكاد استرها من نفسي.
وأما وجه صحة القول في ذلك، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم، فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ: قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم، وما قد عرفوه في منطقهم وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا. وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم، فيما استفاض القول به منهم، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر، فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين، وعلى وجه يحتمل الكلام من غير وجهه المعروف، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم، فقال بعضهم: يحتمل معناه: أريد أخفيها، قال: وذلك معروف في اللغة، وذُكر أنه حُكي عن العرب أنهم يقولون: أولئك أصحابي الذين أكاد أنـزل عليهم، وقال: معناه: لا أنـزل إلا عليهم. قال: وحُكي: أكاد أبرح منـزلي: أي ما أبرح منـزلي، واحتجّ ببيت أنشده لبعض الشعراء:
كــادَتْ وكِـدْتُ وتِلـكَ خَـيْرُ إرَادَةٍ
لَـوْ عـادَ مِـنْ عَهْد الصَّبابَةِ ما مَضَى (5)
وقال: يريد: بكادت: أرادت، قال: فيكون المعنى: أريد أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى. قال: ومما يُشبه ذلك قول زيد الخيل:
سـريع إلـى الهَيْجـاءِ شـاكٍ سِلاحُهُ
فَمَـــا أنْ تَكـــادُ قِرْنُــهُ يَتَنَفَّسُ (6)
وقال: كأنه قال: فما يتنفس قرنه، وإلا ضعف المعنى; قال: وقال ذو الرُّمَّة:
إذا غَـيَّرَ النَّـأْيُ المُحِـبِّينَ لَـمْ يَكَـدْ
رَسِـيسُ الهَـوَى مِـنْ حُبّ مَيَّةَ يَبْرَحُ (7)
قال: وليس المعنى: لم يكد يبرح: أي بعد يُسر، ويبرح بعد عُسر; وإنما المعنى: لم يبرح، أو لم يرد يبرح، وإلا ضعف المعنى; قال: وكذلك قول أبي النجم:
وإنْ أتــاكَ نَعِــيّ فــانْدُبَنَّ أبــا
قَـدْ كَـادَ يَضطْلِـعُ الأعْـداءَ والخُطَبَا (8)
وقال: يكون المعنى: قد اضطلع الأعداء، وإلا لم يكن مدحا إذا أراد كاد ولم يرد يفعل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الساعة آتية أكاد، قال: وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه: أكاد أن آتي بها، قال: ثم ابتدأ فقال: ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، قال: وذلك نظير قول ابن ضابي:
هَمَمَـتُ وَلَـمْ أفْعَـلْ وكِـدْتُ ولَيْتَنِـي
تَـرَكْتُ عـلى عثمـانَ تَبْكِـي أقارِبُهُ (9)
فقال: كدت، ومعناه: كدت أفعل.
وقال آخرون: معنى (أُخفيها) أظهرها، وقالوا: الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار، واستشهد بعضهم لقيله ذلك ببيت الفرزدق:
فَلَمَّــا رأى الحَجَّــاجَ جَـرَّدَ سَـيْفَهُ
أسَـرَّ الحَـرُورِيُّ الّـذِي كـانَ أضْمَرَا (10)
وقال: عنى بقوله: أسرّ: أظهر. قال: وقد يجوز أن يكون معنى قوله وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ وأظهروها، قال: وذلك أنهم قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا . وقال جميع هؤلاء الذين حكينا قولهم جائز أن يكون قول من قال: معنى ذلك: أكاد أخفيها من نفسي، أن يكون أراد: أخفيها من قبلي ومن عندي، وكلّ هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا توجيه منهم للكلام إلى غير وجهه المعروف، وغير جائز توجيه معاني كلام الله إلى غير الأغلب عليه من وجوهه عند المخاطبين به، ففي ذلك مع خلافهم تأويل أهل العلم فيه شاهد عدل على خطأ ما ذهبوا إليه فيه.
وقوله ( لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) يقول تعالى ذكره: إن الساعة آتية لتجزى كلّ نفس: يقول: لتثاب كل نفس امتحنها ربها بالعبادة في الدنيا بما تسعى، يقول: بما تعمل من خير وشرّ، وطاعة ومعصية .
----------------------
الهوامش :
(3) البيت لكعب ( اللسان ، والتاج ، دمك ) قالا : يقال أقمت عنده شهرًا دميكا ، أي شهر تامًّا ، قال كعب : " داب شهرين ثم شهرًا دميكًا " أه . ولم يذكر الشطر الثاني من البيت . وفي ( معجم ما استعجم للبكري ص 144 ) قال أبو عبيدة : أريك في بلاد ذبيان . قال : وهما أريكان : أريك الأسود ، وأريك الأبيض ، والأريك : الجبل الصغير ويخيفان : بفتح الياء يخرجان والغير : له معاني كثيرة ، منها في تاج العروس : الغمير ، كأمير : حب البهمي الساقط من سنبله حين ييبس ، أو نبات أخضر قد غمره اليبس . . إلخ .
(4) البيت لامرئ القيس بن عابس الكندي . استشهد به صاحب ( اللسان : خفا ) على أن قوله لا نخفه ، بفتح النون أي لا نظهره . وكذا ترى قوله تعالى : " أكاد أخفيها " أي أظهرها ، حكاه اللحياني ، عن الكسائي ، عن محمد بن سهل ، عن سعيد بن جبير . أه . قال في اللسان : يقال خفيت الشيء : أظهرته واستخرجته ، يقال خفي المطر الفئار : إذا أخرجهن من أنفاقهن ، أي من جحرتهن . قال امرئ القيس يصف فرسا :
خفــاهن مــن أنفــاقهن كأنمــا
خفــاهن ودق مـن عشـي مجـلب
وخفيت الشيء أخفيه : كتمته ، وهو من الأضداد ، وأخفيت الشيء : سترته وكتمته ، ورواية المؤلف البيت كما في معاني القرآن للفراء . وفي ( اللسان ؛ : خفا ) : " فإن تكتموا السر لا نخفه " .
(5) البيت في ( اللسان : كيد ) قال : ويقال : فلان يكيد أمرا ما أدري ما هو ؟ إذا كان يريغه ، ويحتال له ، ويسعى له . وقال : " بلغوا الأمر الذي كادوا " : يريد : طلبوا أو أرادوا ، وأنشد أبو بكر في كاد بمعنى أراد ، للأفوه :
فــإن تجــمع أوتــاد وأعمــدة
وسـاكن بلغـوا الأمـر الـذي كـادوا
أراد : الذي أرادوا ، وأنشد :
كــادت وكـدت وتلـك خـير إرادة
لـو ( كان ) من أمر الصبابة ما مضى
قال : معناه : ما أرادت ، قال : ويحتمله قوله تعالى : لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا لأن الذي عاين من الظلمات آيسه من التأمل ليده ، والإبصار إليها ، والبيت شاهد على أن كاد بمعنى أراد ، استشهد به المؤلف عند قوله تعالى : أَكَادُ أُخْفِيهَا .
(6) البيت لزيد الخيل كما قال المؤلف . واستشهد به صاحب ( اللسان : كاد ) على أن كاد قد تجيء صلة في الكلام . قال : وتكون كاد صلة للكلام ( زائدة ) ، أجاز ذلك الأخفش وقطرب وأبو حاتم ، واحتج قطرب بقول الشاعر : " سريع . . إلخ " . معناه : ما يتنفس قرنه ، ولكن أبا جعفر الطبري جعله شبيهًا بالشاهد السابق عليه ، وتوجيه قطرب لهذا الشاهد أوضح وأحسن ، وإن التي قبل يكاد : زائدة ، أو نافية مؤكدة لما النافية قبلها .
(7) هذا البيت من حائية ذي الرمة المشهورة ( ديوان طبعة كيمبردج سنة 1919 ص 78 ) قال شارحه : النأي البعد ، رسيس الهوى : مسه ، وما خفي منه ، أو أوله ، ويقال : لم يجد رسيس الحمى ، واستشهد المؤلف بالبيت على أن المعنى فيه : لم يبرح - أو لم يرد يبرح ؛ وعلى هذا يكون الفعل ( يكاد ) زائدًا في الكلام ، وقد جاء في ( اللسان : رسس ) رواية أخرى للبيت ، تؤيد ما ذهب إليه المؤلف ، من أن المعنى على زيادة ( يكاد ) ، وهي :
إذا غَـيَّرَ النَّـأْيُ المُحِـبِّينَ لَـمْ يَكَـدْ
رَسِـيسُ الهَـوَى مِـنْ حُبّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وهذه الرواية هي التي عدل إليها الشاعر ، حين خطأه ابن شبرمة قاضي البصرة لما سمعه ينشد القصيدة في المربد. ولكن المحققين قالوا إن بديهة ذي الرمة في الرواية الأولى ، كانت أجود من روايته ، ( في الرواية الثانية ) . وقد بين العلامة المحقق رضي الله الديلي الأستراباذي : محمد بن الحسن ، صواب الرواية الأولى ، بأن معنى لم يكد : لم يقرب وأن نفي مقاربة الشيء أبلغ من نفي الشيء فيكون معنى البيت : إذا غير البعاد قلوب المحبين ، فبعاد مية عني لا يذهب بما أحس لها من حب ثابت مقيم ولا يقارب أن يذهب به . ( وانظر شرح الرضي على كافية ابن الحاجب ، طبعة الآستانة 2 : 306 أفعال المقاربة ) . وقد أبطل الرضي زعم من زعم من النحاة أن " نفي كاد إثبات وأن إثباته نفي " وهو كلام نفيس دال على ذكائه ودقة فهمه .
(8) البيت لأبي النجم كما قال المؤلف ، والشاهد في قوله " كاد يضطلع " فقد ذهب المؤلف أن معناه : قد اضطلع الأعداء وإلا لم يكن مدحا إذا أراد كاد . ولم يرد يفعل ، وعلى التخريج للبيت يكون الفعل ( كاد ) صلة ( زائدة ) ، مثل الشاهدين السابقين عليه عنده . ويضطلع الأعداء : أي يضطلع بهم وبالخطب ، أسقط البا ، فعدى الفعل بنفسه إلى المعمول الذي كان مجرورا بالباء قبل إسقاطها . يقال اضطلع بحمله ، أي قوي عليه ونهض به . وهو من الضلاعة أي القوة . وفي ( اللسان : ضلع ) : واضطلع الحمل أي احتمله أضلاعه . وقال ابن السكيت : يقال : هو مضطلع بحمله ، أي قوي على حمله ، وهو مفتعل مج الضلاعة . والنعي : الناعي الذي يخبر بموت من مات .
(9) البيت لضابئ ابن الحارث البرجمي ، حبسه الخليفة عثمان ، لأنه كان فاحشا ، هجا قوما فأراد عثمان تأديبه ، فلما دعي ليؤدب ، شد سكينا في ساقه ، ليقتل بها عثمان ، فعثر عليه ، ثم ضرب وأعيد إلى السجن حتى مات فيه . والبيت من مقطوعة لأمية له أنشدها أبو العباس المبرد انظر ( رغبة الآمل ، بشرح الكامل للمرصفي 4 : 91 ) .
فــلا تتبعينــي إن هلكـت ملامـة
فليس بعــار قتــل مـن لا أقاتلـه
هممـت ولـم أفعـل وكـدت وليتنـي
تـركت عـلى عثمـان تبكـي حلائله
والشاهد في قوله : كدت ، أي كدت أفعل ما هممت به من قتل عثمان . وهو نظير ما في القرآن ( إن الساعة آتية أكاد ) ذهب قوم إلى أن معناه : أكاد أن آتي بها . ثم ابتدأ فقال : ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى والبيت لضابئ لا لابنه كما قال المؤلف .
(10) لم أجد هذا البيت في ديوان الفرزدق ،وهو من شواهد أبي عبيدة ( اللسان : سرر ) قال : أسررت الشيء : أخفيته ، وأسررته : أعلنته ، ومن الإظهار قوله تعالى : ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) أي أظهروها . وأنشد الفرزدق * فلمـا رأى الحجـاج جـرد سيفه *
البيت . قال شمر : لم أجد هذا البيت للفرزدق وما قال غير أبي عبيدة في قوله " وأسروا الندامة " أي أظهروها . قال : ولم أسمع ذلك لغيره . قال الأزهري : وأهل اللغة أنكروا أبي عبيدة أشد الإنكار . وقيل : أسروا الندامة : يعني : الرؤساء من المشركين أسروا الندامة في سفلتهم الذين أضلوهم ، وأسروها : أخفوها وكذلك قال الزجاج ، وهو قول المفسرين . والحروري : الخارجي نسبة إلى حروراء ، وهو أول مجتمعاتهم لما نابذوا أمير المؤمنين عليا ، وأظهروا التحكيم " لا حكم إلا لله " . فسموا المحكمة ، والحرورية ، والخوارج .