تفسير
الم
1
سورة البقرة مدنية وهي مائتان وثمانون وسبع آيات
( الم ( 1 ) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( 2 ) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 3 ) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ( 4 ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( 5 ) )
بسم الله الرحمن الرحيم ( الم ) قال الشعبي وجماعة : الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وهي سر القرآن . فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى . وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها . قالأبو بكر الصديق : في كل كتاب سر وسر الله تعالى في القرآن أوائل السور وقال علي : لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف ( التهجي ) وقال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال يا داود إن لكل كتاب سرا وإن سر القرآن فواتح السور فدعها وسل عما سوى ذلك . وقال جماعة هي معلومة المعاني فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص الكاف من كافي والهاء من هادي والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق . وقيل في المص أنا الله الملك الصادق وقال الربيع بن أنس في الم الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه اللطيف والميم مفتاح اسمه المجيد .
وقال محمد بن كعب : الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال معنى الم أنا الله أعلم ومعنى المص أنا الله أعلم وأفضل ومعنى الر أنا الله أرى ومعنى المر أنا الله أعلم وأرى . قال الزجاج : وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفا من كلمة تريدها كقولهم
قلت لها قفي لنا قالت قاف
أي : وقفت وعن سعيد بن جبير قال هي أسماء الله تعالى ( مقطعة ) لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم . ألا ترى أنك تقول الر وحم ، ون فتكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها وقال قتادة : هذه الحروف أسماء القرآن . وقال مجاهد وابن زيد : هي أسماء ( السور ) وبيانه أن القائل إذا قال قرأت المص عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت بالمص . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها أقسام وقال الأخفش إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها ( مبادئ ) كتبه المنزلة ومباني أسمائه الحسنى .
قوله تعالى: {ذلك الكتاب}: أي هذا الكتاب وهو القرآن، وقيل: هذا فيه مضمر أي هذا ذلك الكتاب.
قال الفراء: "كان الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق عن كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال هذا (ذلك) الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك"
و"هذا" للتقريب و"ذلك" للتبعيد.
وقال ابن كيسان: "إن الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سورا كَذَّب بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال: {ذلك الكتاب} يعني ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه".
والكتاب: مصدر وهو بمعنى المكتوب؛ كما يقال للمخلوق خلق، وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه. وأصل الكتب الضم والجمع، ويقال للجند كتيبة لاجتماعها، وسمي الكتاب كتابا لأنه جمع حرف إلى حرف.
قوله تعالى: {لا ريب فيه}: أي لا شك فيه أنه من عند الله عز وجل وأنه الحق والصدق، وقيل: "هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق} [197 - البقرة] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا".
قرأ ابن كثير: فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلا ما لم يلقها ساكن ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسرة ياء وإن كان غير ياء يشبعها بالضم واوا، ووافقه حفص في قوله: {فيه مهانا} [69 - الفرقان] (فيشبعه).
قوله تعالى: {هدى للمتقين}: يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر وابن كثير وحمزة والكسائي، زاد حمزة والكسائي عند الياء وزاد حمزة عند الواو والآخرون لا يدغمونها ويُخْفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين.
{هدى للمتقين}: أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى، وقيل: هو نصب على الحال أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
و(الهدى) ما يهتدي به الإنسان، (للمتقين) أي للمؤمنين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش"
وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله الحجز بين الشيئين، ومنه يقال: اتقى بترسه أي جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده. وفي الحديث: (( كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم )) أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو، فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: "حدثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك قال: نعم، قال: فما عملت فيه، قال: حذرت وشمرت، قال كعب: ذلك التقوى".
وقال شهر بن حوشب: "المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذراً لما به بأس".
وقال عمر بن عبد العزيز: "التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير".
وقيل هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي الحديث: ((جماع التقوى في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. } [90-النحل] الآية)).
وقال ابن عمر: "التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد".
وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم هم المتقون بالهدى.
قوله تعالى: {الذين يؤمنون}: موضع الذين خفض نعتاً للمتقين. يؤمنون: يصدقون (ويترك الهمزة أبو عمرو وورش، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن إلا أحرفاً معدودة).
وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب، قال الله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا} [17-يوسف] [ أي بمصدق لنا ] وهو في الشريعة: الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، فسمي الإقرار والعمل إيماناً، لوجه من المناسبة، لأنه من شرائعه.
والإسلام: هو الخضوع والانقياد، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً، إذا لم يكن معه تصديق، قال الله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [14- الحجرات] وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن، وقد يكون مصدقاً في الباطن غيرمنقاد في الظاهر.
وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام؛ وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن بويه الزراد البخاري: أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ثنا أبو أحمد عيسى بن أحمد العسقلاني أنا يزيد بن هارون أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من تكلم في القدر، يعني بالبصرة، معبداً الجهني فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقوله هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أنف قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره؛ ثم قال: (حدثنا عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم [وركبته تمس ركبته] فقال: يامحمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، فقال: صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه، ثم قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وحده وملائكته وكتبه ورسوله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره، فقال: صدقت، ثم قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الساعة؟ فقال ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر، قال: صدقت، ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر هل تدري من الرجل؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه)".
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإسلام في هذا الحديث اسماً لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم.
والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه ثنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان ثنا بشر بن موسى ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ّ(الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان).
وقيل: الإيمان مأخوذ من الأمان، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله، والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن العباد من عذابه.
قوله تعالى: {بالغيب}: والغيب مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب [كما قيل للعادل عدل وللزائر زور].
والغيب ما كان مغيباً عن العيون؛ قال ابن عباس: "الغيب هاهنا كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان".
وقيل الغيب هاهنا: هو الله تعالى، وقيل: القرآن.
وقال الحسن: "بالآخرة" وقال زر بن حبيش وابن جريح: "بالوحي". نظيره {أعنده علم الغيب} [35-النجم]
وقال ابن كيسان: "بالقدر"، وقال عبد الرحمن بن يزيد: "كنا عند عبد الله بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم [وما سبقونا به] فقال عبد الله: إن أمر محمد كان بيناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ {الم * ذلك الكتاب} إلى قوله {المفلحون}".
قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وورش (يومنون) بترك الهمزة وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة إلا في (أنبئهم) و(نبئهم) و(نبئنا) ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم نحو (نبئهم) و(أنبئهم) و(تسؤهم) و(إن نشأ) و(ننسأها) و(نحوها) أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى نحو: (مؤصدة) و(رئياً). ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل إلا (تؤوي) و(تؤويه) ولا يترك من عين الفعل: إلا (الرؤيا) و(بابه)، إلا ما كان على وزن فعل، مثل: (ذئب).
قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة}: أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيئاتها.
يقال: قام بالأمر وأقام الأمر إذا أتى به معطىً حقوقه.
والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ (الواحد) كقوله تعالى: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق} [213-البقرة] يعني الكتب.
والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: {وصَلِّ عليهم} [103-التوبة] أي ادع لهم.
وفي الشريعة: اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء.
وقيل في قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [56-الأحزاب] الآية. إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين: الدعاء.
قوله تعالى: {ومما رزقناهم}: (أي) أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد.
وأصله في اللغة الحظ والنصيب.
{ينفقون}: يتصدقون.
قال قتادة: "ينفقون في سبيل الله وطاعته.
وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد والملك، ومنه نفاق السوق، لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد، ومنه: نفقت الدابة إذا أخرجت روحها.
فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب.
قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك}: يعني القرآن.
{وما أنزل من قبلك}: من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ويترك أبو جعفر وابن كثير وقالون (وأبو عمرو) وأهل البصرة ويعقوب كل مدة تقع بين كل كلمتين. والآخرون يمدونها.
وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب.
قوله تعالى: {وبالآخرة}: أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا.
{هم يوقنون}: أي يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان: وهو العلم.
وقيل: الإيقان واليقين: علم عن استدلال. ولذلك لا يسمى الله موقناً ولاعلمه يقيناً إذ ليس علمه عن استدلال.
قوله تعالى: {أولئك}: أي أهل هذه الصفة.
و(أولاء) كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو: هم، والكاف للخطاب كما في حرف ذلك.
{على هدى}: أي رشد وبيان وبصيرة.
{من ربهم وأولئك هم المفلحون}: أي الناجون، والفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار، ويكون الفلاح بمعنى البقاء أي باقون في النعيم المقيم.
وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض، وفي المثل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق فهم (مقطوع) لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
قوله ( إن الذين كفروا ) يعني مشركي العرب قال الكلبي : يعني اليهود . والكفر هو الجحود وأصله من الكفر وهو الستر ومنه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزراع كافرا لأنه يستر الحب بالتراب والكافر يستر الحق بجحوده .
والكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار وكفر جحود وكفر عناد وكفر نفاق . فكفر الإنكار أن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به وكفر الجحود هو أن يعرف الله تعالى بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس وكفر اليهود . قال الله تعالى : " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " ( 89 - البقرة ) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا وأما كفر النفاق فهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له .
قوله ( سواء عليهم ) أي متساو لديهم ( أأنذرتهم ) خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير وكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا وحقق ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي الهمزتين في أأنذرتهم وكذلك كل همزتين تقعان في أول الكلمة والآخرون يلينون الثانية ( أم ) حرف عطف على الاستفهام ( لم ) حرف جزم لا تلي إلا الفعل لأن الجزم يختص بالأفعال ( تنذرهم لا يؤمنون ) وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله ثم ذكر سبب تركهم الإيمان
فقال: {ختم الله}: طبع الله.
{على قلوبهم} فلا تعي خيراً ولا تفهمه.
وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي حَكَمَ على قلوبهم بالكفر، لِمَا سبق من علمه الأزلي فيهم.
وقال المعتزلة: "جعل على قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها".
{وعلى سمعهم}: أي على موضع سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به.
وأراد {على أسماعهم} كما قال: {على قلوبهم} وإنما وحده لأنه مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع.
{وعلى أبصارهم غشاوة}: هذا ابتداء كلام. غشاوة أي: غطاء، فلا يرون الحق.
وقرأ أبو عمرو والكسائي أبصارهم بالامالة وكذا كل ألف بعدها راء مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها ويميل حمزة منها ما يتكرر فيه الراء كالقرار ونحوه.
زاد الكسائي إمالة (جبارين) و(الجوار) و(الجار) و(بارئكم) و(من أنصاري) و(نسارع) و(بابه).
وكذلك يميل هؤلاء كل ألف بمنزلة لام الفعل أو كان علماً للتأنيث إذا كان قبلها راء؛ فعلم التأنيث مثل: الكبرى والأخرى، ولام الفعل مثل: ترى وافترى، يكسزون الراء فيها.
{ولهم عذاب عظيم}: أي في الآخرة، وقيل: القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في العقبى.
والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه.
قال الخليل: "العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده"
ومنه: الماء العذب؛ لأنه يمنع العطش.
قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله}: نزلت في المنافقين عبد الله بن أُبَي بن سلول، ومعتب بن قشير، وجَدّ بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإسلام ليَسْلَمُوا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها، وأكثرهم من اليهود.
و{الناس}: جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي، كما قال الله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} [115-طه]، وقيل: لظهوره من قولهم آنست أي أبصرت، وقيل: لأنه يستأنس به.
{وباليوم الآخر}: أي بيوم القيامة.
قال الله تعالى: {وما هم بمؤمنين:}: أي يخالفون الله.
{يخادعون الله}: أي يخالفون الله، وأصل الخدع في اللغة الإخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر.
والخدع من الله في قوله: {وهو خادعهم} [182-النساء] أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة.
وقيل: أصل الخدع: الفساد؛ معناه يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر.
وقوله: {وهو خادعهم}: أي يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة.
-فإن قيل ما معنى قوله: {يخادعون الله} والمفاعلة للمشاركة وقد جل الله تعالى عن المشاركة في المخادعة؟ قيل: قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعاقبت فلاناً، وطارقت النعل.
وقال الحسن: "معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كما قال الله تعالى: {إن الذين يؤذون الله} [57- الأحزاب] أي أولياء الله.
وقيل: ذكر الله ها هنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول} [41- الأنفال].
وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم.
{والذين آمنوا}: أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم (آمنا) وهم غير مؤمنين.
{وما يخدعون} قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقرأ الباقون: وما يخدعون على الأصل.
{إلا أنفسهم}: لأن وبال خداعهم راجع إليهم؛ لأن الله تعالى يُطْلِع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى.
{وما يشعرون}: أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم.
{في قلوبهم مرض}: شك ونفاق، وأصل المرض الضعف.
وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن.
{فزادهم الله مرضاً}: لأن الآيات كانت تنزل تترى، آية بعد آية، كلما كفروا بآية ازدادوا كفراً ونفاقاً وذلك معنى قوله تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [125-التوبة].
وقرأ ابن عامر وحمزة فـ(زادهم) بالإمالة، وزاد حمزة إمالة (زاد) حيث وقع و(زاغ) و(خاب) و(طاب) و(حاق) و(ضاق)، والآخرون لا يميلونها.
{ولهم عذاب أليم}: مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم.
{بما كانوا يكذبون}: ما للمصدر أي بتكذيبهم الله ورسوله في السر.
قرأ الكوفيون (يكذبون) بالتخفيف أي بكذبهم (إذ) قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.
{وإذا قيل}: قرأ الكسائي: (( قيل )) و(( غيض )) و(( جيء )) و(( حيل )) و(( سيق )) و(( سيئت )) بروم أوائلهن الضم - ووافق ابن عامر في (( سيق )) و(( حيل )) و(( سيئ )) و(( سيئت )) - ووافق أهل المدينة في: (سيء) و(سيئت) لأن أصلها قول بضم القاف وكسر الواو، مثل: قتل وكذلك في أخواته فأشير إلى الضمة لتكون دالة على الواو المنقلبة وقرأ الباقون بكسر أوائلهن، استثقلوا الحركة على الواو فنقلوا كسرتها إلى فاء الفعل وانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.
{وإذا قيل لهم}: يعني للمنافقين، وقيل: لليهود.
أي قال لهم المؤمنون {لا تفسدوا في الأرض} بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وقيل: معناه لا تكفروا، والكفر أشد فساداً في الدين.
{قالوا إنما نحن مصلحون} يقولون هذا القول كذباً كقولهم (آمنا) وهم كاذبون.
{ألا}: كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب.
{إنهم هم المفسدون}: أنفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الإيمان.
{ولكن لا يشعرون}: أي لا يعلمون أنهم مفسدون؛ لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح.
وقيل: لا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب.
{وإذا قيل لهم}: أي للمنافقين، وقيل: لليهود.
{آمنوا كما آمن الناس} عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب، وقيل: كما آمن المهاجرون والأنصار.
{قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}: أي الجُهَّال.
فإن قيل: كيف يصح النفاق مع (المهاجرة) بقولهم (أنؤمن كما آمن السفهاء)؟ قيل: أنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك فَرَدَّ الله عليهم فقال:
{ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}: أنهم كذلك فالسفيه خفيف العقل رقيق الحلم من قولهم: ثوب سفيه أي رقير، وقيل: السفيه الكذاب الذي يتعمد (الكذب) بخلاف ما يعلم.
قرأ أهل الكوفة والشام (السفهاء ألا) بتحقيق الهمزتين وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا والآخرون يحققون الأولى ويلينون الثانية في المختلفتين طلباً للخفة فإن كانتا متفقتين مثل: هؤلاء، وأولياء، وأولئك، وجاء أمر ربك - قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدة وقرأ أبو جعفر وورش والقواش ويعقوب بتحقيق الأولى وتليين الثانية وقرأ قالون بتخفيف الأولى وتحقيق الثانية لأن ما يستأنف أَوْلَى بالهمزة مما يسكت عليه.
{وإذا لقوا الذين آمنوا}: يعني هؤلاء المنافقين إذا لقوا المهاجرين والأنصار
{قالوا آمنا} كإيمانكم
{وإذا خلوا} رجعوا، ويجوز أن يكون من الخلوة.
{إلى} بمعنى الباء أي بشياطينهم، وقيل: (إلى) بمعنى مع؛ كما قال الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [2-النساء] أي مع أموالكم.
{شياطينهم}: أي رؤسائهم وكهنتهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وهم خمسة نفر من اليهود كعب بن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء بالشام".
ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له.
والشيطان: المتمرد العاتي من الجن والإنس، ومن كل شيء وأصله البعد، يقال: بئر شطون أي: بعيدة العمق، سمي الشيطان شيطانا لامتداده في الشر وبعده عن الخير .
وقال مجاهد: "إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين".
{قالوا إنا معكم}: أي على دينكم.
{إنما نحن مستهزئون}: بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما نظهر من الإسلام .
قرأ أبو جعفر (مستهزون) و(يستهزون) وقل (استهزوا) و(ليطفوا) و(ليواطوا) و(يستنبونك) و(خاطين) و(خاطون) و(متكن) و(متكون) (فمالون) و(المنشون) بترك الهمزة فيهن.
{الله يستهزئ بهم}: أي يجازيهم جزاء استهزائهم.
سمي الجزاء باسمه لأنه في مقابلته، كما قال الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [40-الشورى].
قال ابن عباس: "هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم، وردوا إلى النار".
وقيل: هو أن يضرب للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين، كما قال الله تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} [54-سبأ]، قال الله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب..} الآية [13-الحديد].
وقال الحسن: "معناه الله يُظْهِر المؤمنين على نفاقهم".
{ويمدهم}: يتركهم ويمهلهم.
والمد والإمداد واحد، وأصله الزيادة إلا أن المد أكثر ما يأتي في الشر، والإمداد في الخير، قال الله تعالى في المد: {ونمد له من العذاب مداً} [79-مريم]، وقال في الإمداد: {وأمددناكم بأموال وبنين} [6-الإسراء]، {وأمددناهم بفاكهة} [22-الطور].
{في طغيانهم}: أي في ضلالتهم. وأصله مجاوزة الحد، ومنه طغى الماء.
{يعمهون}: أي يترددون في الضلالة متحيرين.