تفسير سورة مريم تفسير الطبري

تفسير سورة مريم بواسطة تفسير الطبري هذا ما سنستعرض بإذن الله سويًا ،هي سورة مكية وجاء ترتيبها 19 في المصحف الكريم وعدد آياتها 98.

تفسير آيات سورة مريم

تفسير كهيعص 1

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى ذكره: كاف من (كهيعص) فقال بعضهم: تأويل ذلك أنها حرف من اسمه الذي هو كبير، دلّ به عليه، واستغنى بذكره عن ذكر باقي الاسم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية (كهيعص) قال: كبير، يعني بالكبير: الكاف من (كهيعص).
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، كان يقول (كهيعص) قال: كاف: كبير.
حدثني أبو السائب، قال: أخبرنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير في (كهيعص) قال: كاف: كبير.
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
وقال آخرون: بل الكاف من ذلك حرف من حروفه اسمه الذي هو كاف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد، في قوله (كهيعص) قال: كاف: كافٍ.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (كهيعص) قال: كاف: كافٍ.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن الكلبي مثله.
وقال آخرون: بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو كريم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير (كهيعص) قال: كاف من كريم.
وقال الذين فسروا ذلك هذا التفسير الهاء من كهيعص: حرف من حروف اسمه الذي هو هاد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان يقول في الهاء من (كهيعص) : هاد.
حدثنا أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل، عن سعيد، مثله.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير نحوه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم في قوله (كهيعص) ، قال: ها: هاد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن الكلبي، مثله.
واختلفوا في تأويل الياء من ذلك، فقال بعضهم: هو حرف من حروف اسمه الذي هو يمين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: " يا " من (كهيعص) ياء يمين.
حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: " يا " من (كهيعص) ياء يمين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس ، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد ، عن سعيد بن جبير ياء: يمين.
وقال آخرون: بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو حكيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير (كهيعص) قال: يا: من حكيم.
وقال آخرون: بل هي حروف من قول القائل: يا من يجير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا إبراهيم بن الضريس، قال: سمعت الربيع بن أنس في قوله (كهيعص) قال: يا من يجير ولا يجار عليه.
واختلف متأوّلو ذلك كذلك في معنى العين، فقال بعضهم: هي حرف من حروف اسمه الذي هو عالم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد (كهيعص) قال: عين من عالم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن الكلبي، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا عمرو، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبيه، في قوله (كهيعص) قال: عين: من عالم.
وقال آخرون: بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عزيز.
ذكر من قال ذلك:
* حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (كهيعص) عين: عزيز.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، في قوله (كهيعص) قال: عين عزيز.
وقال آخرون: بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عدل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم، في قوله (كهيعص) قال: عين: عدل.
وقال الذين تأولوا ذلك هذا التأويل: الصاد من قوله (كهيعص) : حرف من حروف اسمه الذي هو صادق.
* ذكر الرواية بذلك: حدثنا أبو كريب ، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان يقول في (كهيعص) صاد : صادق.
حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين ، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم، قال: صاد: صادق.
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، قال: صادق، يعني الصاد من (كهيعص)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد (كهيعص) قال: صاد صادق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن الكلبي، قال: صادق.
وقال آخرون: بل هذه الكلمة كلها اسم من أسماء الله تعالى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سالم بن قتيبة، عن أبي بكر الهُذَليّ، عن عاتكة، عن فاطمة ابنة عليّ قالت: كان عليّ يقول: يا(كهيعص) : اغفر لي.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (كهيعص) قال: فإنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
وقال آخرون: كلّ حرف من ذلك اسم من أسماء الله عزّ وجل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: (كهيعص) ليس منها حرف إلا وهو اسم.
وقال آخرون: هذه الكلمة اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله (كهيعص) قال: اسم من أسماء القرآن.
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا نظير القول في الم وسائر فواتح سور القرآن التي افتتحت أوائلها بحروف المعجم، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.

تفسير ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 2

اختلف أهل العربية في الرافع للذكر، والناصب للعبد، فقال بعض نحويي البصرة في معنى ذلك كأنه قال: مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده، وانتصب العبد بالرحمة كما تقول: ذكر ضرب زيد عمرا. وقال بعض نحويي الكوفة: رفعت الذكر بكهيعص، وإن شئت أضمرت هذا ذكر رحمة ربك، قال: والمعنى ذكر ربك عبده برحمته تقديم وتأخير.
قال أبو جعفر: والقول الذي هو الصواب عندي في ذلك أن يقال: الذكر مرفوع بمضمر محذوف، وهو هذا كما فعل ذلك في غيرها من السور، وذلك كقول الله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وكقوله: سُورَةٌ أَنْـزَلْنَاهَا ونحو ذلك. والعبد منصوب بالرحمة، وزكريا في موضع نصب، لأنه بيان عن العبد، فتأويل الكلام: هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا.

تفسير إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا 3

وقوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفي، يعنى: وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل ، كراهة منه للرياء.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) أي سرّا، وإن الله يعلم القلب النقيّ، ويسمع الصوت الخفيّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) قال: لا يريد رياء.

تفسير قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا 4

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: رغب زكريا في الولد، فقام فصلى، ثم دعا ربه سرّا ، فقال: ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ).... إلى وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا وقوله: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) يقول تعالى ذكره، فكان نداؤه الخفي الذي نادى به ربه أن قال: ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) يعني بقوله (وَهَنَ) ضعف ورقّ من الكبر.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) أي ضعف العظم مني.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) قال: نحل العظم. قال عبد الرزاق، قال: الثوري: وبلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة.
وقد اختلف أهل العربية في وجه النصب في الشَّيْب، فقال بعض نحويي البصرة: نصب على المصدر من معنى الكلام، كأنه حين قال: اشتعل، قال: شاب، فقال: شَيْبا على المصدر. قال: وليس هو في معنى: تفقأت شحما وامتلأت ماء، لأن ذلك ليس بمصدر. وقال غيره : نصب الشيب على التفسير، لأنه يقال: اشتعل شيب رأسي، واشتعل رأسي شيبا، كما يقال: تفقأت شحما، وتفقأ شحمي.
وقوله: ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول: ولم أشق يا رب بدعائك، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، قوله: ( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول: قد كنت تعرّفني الإجابة فيما مضى.

تفسير وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا 5

يقول: وإني خفت بني عمي وعصبتي من ورائي: يقول: من بعدى أن يرثوني، وقيل: عنى بقوله (مِنْ وَرَائِي) من قدّامي ومن بين يديّ ؛ وقد بيَّنت جواز ذلك فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) يعني بالموالي: الكلالة الأولياء أن يرثوه، فوهب الله له يحيى.
حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: العصبة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: خاف موالي الكلالة.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح بنحوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: يعني الكلالة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: العصبة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: العصبة.
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) والموالي: هنّ العصبة ، والموالي: جمع مولى، والمولى والوليّ في كلام العرب واحد. وقرأت قراء الأمصار (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ) بمعنى: الخوف الذي هو خوف الأمن. وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأه : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ) بتشديد الفاء وفتح الخاء من الخفة، كأنه وجه تأويل الكلام: وإني ذهبت عصبتي ومن يرثني من بني أعمامي. وإذا قرئ ذلك كذلك كانت الياء من الموالي مسكنة غير متحركة، لأنها تكون في موضع رفع بخفت.
وقوله (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) يقول: وكانت زوجتي لا تلد، يقال منه: رجل عاقر، وامرأة عاقر بلفظ واحد، كما قال الشاعر:
لَبِئـسَ الفَتـى أنْ كُـنْتُ أعْوَرَ عاقِرً ا
جبَانـا فَمَـا عُـذْرِي لَدَى كُلّ مَحْضَرِ (1)
وقوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يقول: فارزقني من عندك ولدا وارثا ومعينا.
------------------------
الهوامش:
(1) البيت في ديوان عامر بن الطفيل ، طبعة ليدن سنة 1913 . والرواية فيه " فبئس " في مكان : " لبئس " وفي اللسان : العاقر التي لا تحمل ، ورجل عاقر : لا يولد له ، ونساء عقر ، بضم العين وتشديد القاف المفتوحة . وقد استشهد به المؤلف على معنى العاقر ، في سورة آل عمران ( 3 : 257 ) وأعاده في هذا الموضع ، ومحل الاستشهاد في الموضعين واحد .

تفسير يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 6

وقوله: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يقول: يرثني من بعد وفاتي مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قوله ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يقول: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة.
حدثنا مجاهد، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل، عن أبي صالح في قوله ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: يكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: وكان وراثته علما، وكان زكريا من ذرّية يعقوب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال : كان وراثته علما، وكان زكريا من ذرية يعقوب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، في قوله ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: نبوّته وعلمه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن مبارك، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رَحِمَ اللهُ أخِي زَكَرِيَّا، ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مالِهِ حِينَ يَقُولُ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثْ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: كان الحسن يقول: يرث نبوّته وعلمه. قال قتادة: ذُكر لنا " أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، وأتى على ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته ".
حدثنا الحسن، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يَرْحَمُ اللهُ زكَرِيَّا ومَا عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطا إنْ كانَ لَيَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ".
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) فقرأت ذلك عامَّة قرّاء المدينة ومكة وجماعة من أهل الكوفة:
( يَرِثُنِي وَيَرِثُ ) برفع الحرفين كليهما، بمعنى فهب الذي يرثني ويرث من آل يعقوب، على أن يرثني ويرث من آل يعقوب، من صله الوليّ. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة والبصرة: ( يَرِثُنِي وَيَرِثْ ) بجزم الحرفين على الجزاء والشرط، بمعنى: فهب لي من لدنك وليا فإنه يرثني إذا وهبته لي. وقال الذين قرءوا ذلك كذلك: إنما حسن ذلك في هذا الموضع، لأن يرثني من آية غير التي قيلها. قالوا وإنما يحسنُ أن يكون مثل هذا صلة، إذا كان غير منقطع عما هو له صلة، كقوله: رِدْءًا يُصَدِّقُنِي .
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأه برفع الحرفين على الصلة للوليّ، لأنّ الوليّ نكرة، وأن زكريا إنما سأل ربه أن يهب له وليا يكون بهذه الصفة، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنه سأله وليا، ثم أخبر أنه إذا وهب له ذلك كانت هذه صفته، لأن ذلك لو كان كذلك، كان ذلك من زكريا دخولا في علم الغيب الذي قد حجبه الله عن خلقه.
وقوله ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) يقول: واجعل يا ربّ الولي الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت ويرضاه عبادك دينا وخُلُقا وخَلْقا. والرضي: فعيل صرف من مفعول إليه.

تفسير يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا 7

يقول تعالى ذكره: فاستجاب له ربه، فقال له: يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحيى.
كان قتادة يقول: إنما سماه الله يحيى لإحيائه إياه بالإيمان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ) عبد أحياه الله للإيمان.
وقوله ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم معناه لم تلد مثله عاقر قط.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ليحيى ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) يقول: لم تلد العواقر مثله ولدا قط.
وقال آخرون: بل معناه: لم نجعل له من قبله مثلا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو الربيع ، قالا ثنا سالم بن قتيبة، قال: أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال: شبيها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال: مثلا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك، أنه لم يسمّ باسمه أحد قبله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) لم يسمّ به أحد قبله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال: لم يسمّ يحيى أحد قبله.
- حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) قال: لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم.
حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) لم يسمّ أحد قبله يحيى.
قال أبو جعفر: وهذا القول أعني قول من قال: لم يكن ليحيى قبل يحيى أحد سمي باسمه أشبه بتأويل ذلك، وإنما معنى الكلام: لم نجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى باسمه، والسميّ: فعيل صرف من مفعول إليه.

تفسير قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا 8

يقول تعالى ذكره: قال زكريا لما بشره الله بيحيى: ( رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ) ومن أيّ وجه يكون لي ذلك، وامرأتي عاقر لا تحبل، وقد ضعُفت من الكبر عن مباضعة النساء بأن تقوّيني على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجتي ولودا، فإنك القادر على ذلك وعلى ما تشاء، أم بأن أن أنكح زوجة غير زوجتي العاقر، يستثبت ربه الخبر، عن الوجه الذي يكون من قبله له الولد، الذي بشره الله به، لا إنكارا منه صلى الله عليه وسلم حقيقة كون ما وعده الله من الولد، وكيف يكون ذلك منه إنكارا لأن يرزقه الولد الذي بشَّره به، وهو المبتدئ مسألة ربه ذلك بقوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ بعد قوله إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا .
وقال السديّ في ذلك: ما حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: نادى جبرائيل زكريا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فلما سمع النداء، جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك كما يوحي إليك غيره من الأمر، فشك وقال ( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ) يقول: من أين يكون وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ .
وقوله ( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) يقول: وقد عتوت من الكبر فصرت نحل العظام يابسها، يقال منه للعود اليابس، عوت عاتٍ وعاسٍ، وقد عتا يعتو عَتِيًّا وعُتُوّا، وعسى يعسو عِسِيا وعسوّا، وكلّ متناه إلى غايته في كبر أو فساد، أو كفر، فهو عات وعاس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب ، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قد علمتُ السنة كلها، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف ( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) أو (عِسِيًّا).
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال: يعني بالعِتيّ: الكبر. .
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ؛ قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (عِتِيًّا) قال: نحول العظم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال: سنًّا، وكان ابن بضع وسبعين سنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال: العتيّ: الذي قد عتا عن الولد فيما يرى نفسه لا يولد له.
- حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال: هو الكبر.

تفسير قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا 9

يقول تعالى ذكره: قال الله لزكريا مجيبا له (قَالَ كَذَلِكَ) يقول: هكذا الأمر كما تقول من أنّ امرأتك عاقر، وإنك قد بلغت من الكبر العتيّ، ولكن ربك يقول: خلْق ما بشَّرتك به من الغلام الذي ذكرت لك أن اسمه يحيى عليّ هين، فهو إذن من قوله (قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كناية عن الخلق.
وقوله (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) يقول تعالى ذكره وليس خلق ما وعدتك أن أهبه لك من الغلام الذي ذكرت لك أمره منك مع كبر سنك، وعقم زوجتك بأعجب من خلقك، فإني قد خلقتك، فأنشأتك بشرا سويا من قبل خلقي ما بشرتك بأني واهب لك من الولد، ولم تك شيئا، فكذلك أخلق لك الولد الذي بشرتك به من زوجتك العاقر، مع عِتيك ووهن عظامك، واشتعال شيب رأسك.

تفسير قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا 10

وقوله: ( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) يقول تعالى ذكره: قال زكريا: يا ربّ اجعل لي علما ودليلا على ما بشَّرَتني به ملائكتك من هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، ليطمئنّ إلى ذلك قلبي.
كما حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) قال: قال ربّ اجعل لي آية أن هذا منك.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: قال رب، فإن كان هذا الصوت منك فاجعل لي آية (قال) الله (آيَتُكَ) لذلك ( أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) يقول جلّ ثناؤه: علامتك لذلك، ودليلك عليه أن لا تكلم الناس ثلاث ليال وأنت سويّ صحيح، لا علة بك من خرس ولا مرض يمنعك من الكلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس ( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال: اعتقل لسانه من غير مرض.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) يقول: من غير خرس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال: لا يمنعك من الكلام مرض.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال: صحيحا لا يمنعك من الكلام مرض.
حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) من غير بأس ولا خرس، وإنما عوقب بذلك لأنه سأل آية بعد ما شافهته الملائكة مشافهة، أخذ بلسانه حتى ما كان يفيض الكلام إلا أومأ إيماء.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عكرمة، في قوله ( ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال: سويا من غير خرس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) وأنت صحيح، قال: فحبس لسانه، فكان لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو في ذلك يسبح، ويقرأ التوراة ويقرأ الإنجيل، فإذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: أخذ الله بلسانه من غير سوء، فجعل لا يطيق الكلام، وإنما كلامه لقومه بالإشارة، حتى مضت الثلاثة الأيام التي جعلها الله آية لمصداق ما وعده من هبته له.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدّي ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) يقول: من غير خرس إلا رمزا، فاعتقل لسانه ثلاثة أيام وثلاث ليال.
وقال آخرون: السويّ من صفة الأيام، قالوا: ومعنى الكلام: قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال متتابعات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ) قال: ثلاث ليال متتابعات.

تفسير فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا 11

يقول تعالى ذكره: فخرج زكريا على قومه من مصلاه حين حُبس لسانه عن كلام الناس، آية من الله له على حقيقة وعده إياه ما وعد. فكان ابن جريج يقول في معنى خروجه من محرابه، ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) قال: أشرف على قومه من المحراب.
قال أبو جعفر: وقد بيَّنا معنى المحراب فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) قال: المحراب: مصلاه، وقرأ: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ
وقوله: ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) يقول: أشار إليهم، وقد تكون تلك الإشارة باليد وبالكتاب وبغير ذلك، مما يفهم به عنه ما يريد. وللعرب في ذلك لغتان: وَحَى، وأوحى فمن قال: وَحَى، قال في يفعل: يَحِي; ومن قال: أوحى، قال : يُوحي، وكذلك أوَمَى وَوَمَى، فمن قال: وَمَى، قال في يفعل يَمِي; ومن قال أوَمَى، قال يُومِي.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي به أوحى إلى قومه، فقال بعضهم: أوحى إليهم إشارة باليد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَوْحَى) : فأشار زكريا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال: الوحي: الإشارة.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال: أومى إليهم.
وقال آخرون: معنى أوحى: كتب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمود بن خداش، قال: ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال: كتب لهم في الأرض.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال: كتب لهم.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدّي ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) فكتب لهم في كتاب ( أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ، وذلك قوله ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ )
وقال آخرون: معنى ذلك: أمرهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال: ما أدري كتابا كتبه لهم، أو إشارة أشارها، والله أعلم، قال: أمرهم أن سَبِّحوا بكرة وعشيا، وهو لا يكلمهم.
وقوله ( أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قد بيَّنت فيما مضى الوجوه التي ينصرف فيها التسبيح، وقد يجوز في هذا الموضع أن يكون عنى به التسبيح الذي هو ذكر الله، فيكون أمرهم بالفراغ لذكر الله في طرفي النهار بالتسبيح، ويجوز أن يكون عنى به الصلاة، فيكون أمرهم بالصلاة في هذين الوقتين.
وكان قتادة يقول في قوله ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال: أومى إليهم أن صلوا بكرة وعشيا.

تفسير يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا 12

يقول تعالى ذكره: فولد لزكريا يحيى، فلما ولد، قال الله له: يا يحيى، خذ هذا الكتاب بقوة، يعني كتاب الله الذي أنـزله على موسى، وهو التوراة بقوّة، يقول: بجدّ.
كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال : بجدّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: بجدّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: القوّة: أن يعمل ما أمره الله به، ويجانب فيه ما نهاه الله عنه .
قال أبو جعفر: وقد بيَّنت معنى ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا، في سورة آل عمران، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال.
وقد حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني معمر، ولم يذكره عن أحد في هذه الآية (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) قال: بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقتُ، فأنـزل الله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).
وقوله ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول تعالى ذكره: ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان، فقال بعضهم: معناه: الرحمة، ووَجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: ورحمة من عندنا.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر ، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، في هذه الآية ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: رحمة.

تفسير وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا 13

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: رحمة من عندنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قوله ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: رحمة من عندنا لا يملك عطاءها غيرنا.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: رحمة من عندنا، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ورحمة من عندنا لزكريا ، آتيناه الحكم صبيا، وفعلنا به الذي فعلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: رحمة من عندنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطفا من عندنا عليه، فعلنا ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: تعطفا من ربه عليه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون: بل معنى الحنان: المحبة. ووجهوا معنى الكلام إلى: ومحبة من عندنا فعلنا ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: محبة عليه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَحَنانا) قال: أما الحنان فالمحبة.
وقال آخرون معناه تعظيما منا له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عطاء بن أبي رباح ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) قال: تعظيما من لدنا. وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا أدري ما الحنان.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله ما أدري ما حنانا.
وللعرب في حَنَانَك لغتان: حَنَانَك يا ربنا، وحَنانَيك; كما قال طَرَفة بن العبد في حنانيك:
أبـا مُنْـذِرٍ أفْنَيْـتَ فاسْـتَبْقِ بَعْضَنـا
حَنـانَيْكَ بعـضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بعضِ (1)
وقال امرؤ القيس في اللغة الأخرى:
ويَمْنَحُهــا بَنُـو شَـمَجَى بـن جَـرْمٍ
مَعِـــيزَهُمُ حَنـــانَكَ ذَا الحَنــانِ (2)
وقد اختلف أهل العربية في " حنانيك " فقال بعضهم: هو تثنية " حنان ". وقال آخرون: بل هي لغة ليست بتثنية; قالوا: وذلك كقولهم: حَوَاليك; وكما قال الشاعر:
ضَرْبا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضًا (3)
وقد سوّى بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية، في أن كل ذلك تثنية. وأصل ذلك أعني الحنان، من قول القائل: حنّ فلان إلى كذا وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق، ثم يقال: تحنَّنَ فلان على فلان، إذا وصف بالتعطُّف عليه والرقة به، والرحمة له، كما قال الشاعر:
تَحَــنّنْ عَــليَّ هَــدَاكَ المَلِيــكُ
فـــإنَّ لِكُـــلّ مَقــامٍ مَقــالا (4)
بمعنى: تعطَّف عليّ. فالحنان: مصدر من قول القائل: حنّ فلان على فلان، يقال منه: حننت عليه، فأنا أحنّ عليه حنينا وحنانا، ومن ذلك قيل لزوجة الرجل: حَنَّته، لتحنته عليها وتعطفه، كما قال الراجز:
وَلَيْلَـــةٍ ذَاتِ دُجًـــى سَــرَيْتُ
ولَــمْ تَضِــرْنِي حَنَّــةٌ وَبيْــتُ (5)
وقوله: (وَزَكاةً) يقول تعالى ذكره: وآتينا يحيى الحكم صبيا، وزكاة: وهو الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه في طاعة ربه، فالزكاة عطف على الحكم من قوله ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح الزكيّ.
حُدثت عن الحسين ، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله (وَزَكاةً) يعني العمل الصالح الزاكي.
وقوله (وكانَ تَقِيًّا) يقول تعالى ذكره: وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته.
كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ) قال: طهر فلم يعمل بذنب.
حدثني يونس، قال: خبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ) قال: أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس.
-------------------------------
الهوامش :
(1) البيت لطرفة بن العبد البكري ( اللسان : حنن ) . والشاهد في قوله حنانيك ، أي تحننا على تحنن . وحكى الأزهري عن الليث : حنانيك يا فلان افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، يذكره الرحمة والبر ، وأنشد بيت طرفة . قال ابن سيده : وقد قالوا حنانا ، فصلوه من الإضافة في الإفراد ، وكل ذلك بدل من اللفظ بالفعل .
(2) البيت لامرئ القيس بن حجر ( اللسان : حنن ) و ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 110 ) قال شارحه ويمنحها : هذه رواية الأصمعي أي يعطيها ويروى : ويمنعها ، وهي أشبه بمعنى البيت . وقوله : حنانك ذا الحنان ، فسره ابن الأعرابي : رحمتك يا رحمن ، فأغنى عنهم . وعلى أية حال . فالشاعر برم بمجاورة بني شمجي بن جرم ، متسخط فعلهم ، زار عليهم ، إذا منعوه المعزى . فأما إذا منحوه إياها ( على رواية الأصمعي ) فإنه يكون ساخطا ، لاضطراره إلى أن يقبل منح أمثالهم مع ما له من الشرف والعراقة في الملك ؛ كأنه يقول في نفسه : أبعد ما كان لنا من العز الشامخ تذل نفسي وتضطر إلى قبول المنح والصلات من الناس . وفي اللسان : فرواية الأعرابي تسخط وذم ، وذلك تفسيره ؛ ورواية الأصمعي : تشكر وحمد ودعاء لهم ، وكذلك تفسيره .
(3) البيت في ( اللسان : هذذ ) غير منسوب . قال : الهذ و الهذذ : سرعة القطع وسرعة القراءة . قال : ضربا هذا ذيك : أي هذا بعد هذ ، يعني قطعا بعد قطع . وعلى هذا استشهد به المؤلف . . والوخض : قال الأصمعي : إذا خالطت الطعنة الجوف ولم تنفذ ، فذلك الوخض والوخط أه . يقال : وخضه بالرمح وخضا .
(4) البيت للحطيئة ( لسان العرب : حنن ) . قال : وتحنن عليه : ترحم ، وأنشد ابن بر الحطيئة : تحنن علي . . . البيت .
(5) هذان بيتان من مشطور الرجز ، لأبي محمد الفقعسي ، وبينهما بيت ثالث ، وهو قوله * ولـم يلتنـي عـن سـراها ليت *
( اللسان : حنن ) . وقد استشهد بالبيتين الأولين منهما صاحب اللسان في ( ليت ) . واستشهد بهما المؤلف في الجزء الخامس عشر عند تفسير قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ) وموضع الشاهد هنا في البيت الثالث وهو قوله : " حنة " . قال : وحنة الرجل : امرأته ، قال أبو محمد الفقعسي : " وليلة " . . . . إلخ . الأبيات الثلاثة . قال : وهي طلته وكنيته ونهضته وحاصنته وحاضنته .

تفسير وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا 14

يقول تعالى ذكره: وكان برّا بوالديه، مسارعا في طاعتهما ومحبتهما ، غير عاقّ بهما(وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) يقول جلّ ثناؤه: ولم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان لله ولوالديه متواضعا متذللا يأتمر لما أمر به، وينتهي عما نُهِي عنه، لا يَعْصِي ربه، ولا والديه.
وقوله (عَصِيًّا) فعيل بمعنى أنه ذو عصيان، من قول القائل: عَصَى فلان ربه، فهو يعصيه عصيا.

تفسير وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا 15

وقوله ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يقول: وأمان من الله يوم ولد، من أن يناله الشيطان من السوء، بما ينال به بني آدم، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلا ما كانَ مِنْ يَحْيَى بنِ زَكَريَّا ".
حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: ثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (جَبَّارًا عَصِيًّا) قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ يَوْمَ القِيامَةِ، إلا ذَا ذَنْبٍ، إلا يَحْيَى بنَ زَكَريَّا ".
قال: وقال قتادة: ما أذنب، ولا هم بامرأة.
وقوله ( وَيَوْمَ يَمُوتُ ) يقول: وأمان من الله تعالى ذكره له من فَتَّاني القبر، ومن هول المطلع ( وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) يقول: وأمان له من عذاب الله يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، من أن يروعه شيء، أو أن يفزعه ما يفزع الخلق.
وقد ذكر ابن عيينة في ذلك ما حدثني أحمد بن منصور الفَيروزِيّ، قال: أخبرني صدقة بن الفضل قال: سمعت ابن عطية يقول: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن الحسن قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني ، سَلَّمت على نفسي، وسلَّم الله عليك، فعرف والله فضلها.